مقالة في استحالة غلبة الآلة البشر
أثبت لك بالأدلة استحالة مزاعم الناس في سيطرة الآلات على البشر وأن الذكاء الاصطناعي سيكون أذكى منهم قريبًا وأن الآلات العاقلة ستغلب البشر عقولًا
إنّ من البلايا في عصرنا انتشار القول بغلبة الذكاء الاصطناعي البشر. حتى خرج أقوامٌ يُحذّرون الناس من مغبّة الاشتغال ببرمجته وأنهم إن فعلوا فقد فتحوا شر شرور الدنيا كلها. وأن الآلة العاقلة إن خرجت للناس فهم إما لها خاضعون أو منها هالكون، سيّدهم يومئذ ذليل وأبيّهم قتيل. وتلقّف هذا القول جمعٌ خوّفوا الناس من مستقبل أمرهم فصاحوا فيهم أن لا ضامن لكم اليوم فإنّ الآلة مستبدلة كل أمركم غدًا. فتاه الناس يتحسسون خبر الآلة ليبتعدوا عنها، فكم جاءني من رجل يسألني عن آخر شيء ستدخله الآلة حتى يتخصص فيه ثم لا يُستبدل.
وحُجج هؤلاء القوم في الغلبة هذا تسلسلها:
1- ستغلب الآلة البشر ذكاءً.
2- تختلف غايات الآلة عن البشر.
3- ستنجز الآلة وعدها ولو بإفناء البشر.
أحسن القوم طريقة ينازعون في الثانية فيسعون لمواءمة أهداف الذكاء الاصطناعي ليكون هواها تبعًا لهوانا. وأكثرهم يجادلون في الثالثة فيتخيلون كيف يكون هلاكنا على أيديهم. أما العقلاء فلا يسلمون بالمقدمة الأولى رأسًا، بل يقولون بالاستحالة المطلقة لتعقّل الآلة. وفي مقالتي هذه جمعت أقوالهم وما آتاني الله من علم لترى فساد أقوالهم وأنّ لا غالب للبشر إلا الله.
بدأت مقالتي بأهم سبب لهذا القول: تأنيس الآلة. ثم ذكرت فصلًا في نقد البيانات وهي أكثر شيء حرّك الآلة في عصرنا. ثم أخذت أنقد في الخوارزميات مبتدأً ومنتهى لأنها مشغّلة الآلة. ثم مِلت إلى ما بين أيدينا من ذكاء اصطناعي فاتخذته ومذاهبه مرمىً للنقد. ثم أكملت المقالة بذكر رأي الشرع في مسألة غلبة الآلة البشر وذكرت فيه حجتين. والحُجج المبسوطة في المقالة ليست سواءً؛ فمنها القاطع بالاستحالة ومنها ما يُظن به الاستحالة ومنها عقبات وصعوبات قد يُتغلّب عليها اليوم أو غدًا.
1) تأنيس الآلة
تأنيس الأشياء طبع أصيل في البشر لم يتغير من أول يوم خُلقوا فيه إلى يوم الناس هذا. والتأنيس هو إضفاء الصبغة الإنسية على شيء لاشتراكه مع الإنس بصفات. كالكلام مع الجمادات أو معاملتها كما يُعامل البشر؛ فتجد رجلًا يكلم جهازه ويترجاه أن يعمل بعد إذ فشل مرارًا، وآخر يسبه إذا عمل غير الذي يريد. ومنها أن السيارة إذا نُظر إليها من أمامها تخيّل أحدنا مقدمتها وجه إنسان فينسب إليها الفرح والغضب، وتخيل وجوه على السحاب وغيرها. وقد يشتد أمر التأنيس فيظن أن الشيء ما فعل هذا إلا لقصد كتطيّر العرب بالغراب إذا أرادوا السفر. ولولا التأنيس لما احتجت أن أكتب مقالتي هذه، فكثيرٌ ممن يظن الذكاء الاصطناعي يشابه عقل البشر إنما حمله التأنيس على هذا.
وإنّ أول تأنيس أعطيناه له هو تسميتنا إياه ذكاءً، وخوارزمياته تعلمًا، وأخطاءه هلوسةً، وإصابة المطلوب فهمًا، وتوليد النصوص كلامًا، وإنتاج الصور إبداعًا، وغيرها مما لو عددتها لما حصرتها. ولا أقول إن هذا خطأ محض بل اللغات محدودة ولا طاقة لنا بأن نأتي بكلمات جديدة لكل شيء، بل تكفينا المقاربة. ولكن أن يصل هذا التأنيس إلى الزعم بغلبته للبشر فهذا الذي لا يجوز ولا ينبغي. انظر قولنا للجهاز لتعبئة بطاريته شحنًا، أرأيت لو اصطلحنا على تسميته أكلًا وانتهائها جوعًا، ثم جاءنا من يقول إن الأجهزة ستأكل كل الطعام على الأرض ويفنى البشر؟ فهذا مثل ذاك. على أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ عام 1956م إلّا أنّ من العلماء من جاء بمصطلحات غيره مثل معالجة المعلومات المعقّدة Complex Information Processing وأيضا دراسات الآلات الذاتية Automata Studies [1]. وفي هذه المصطلحات تأنٍ في تأنيس الآلة، عكس الذكاء الاصطناعي، فالأول بعيد جدًا عن مشابهة البشر والثاني ظاهر فيه الاسم العلمي المحدد. ثم إن وصف عمل الآلة بالذكاء خطأ، فإن عكس الذكاء الغباء وما عند هذه الآلات ليس ذكاءً ولا حتى غباءً إنما هو خوارزميات رياضية تأخذ بياناتٍ وتعطي نتائجًا، كما سأبيّن في فصل نقد الخوارزميات.
بل وإني أزعم أنّ الذكاء والتعقل إنّما هي صفات حيوية يستحيل خروجها من الجنس الآدمي والحيواني فهي مستحيلة على الجمادات أبدًا. وأنها كمن يقول إنّ الآلات تعطش أو تجوع أو أنها تحيا وتموت -إن أخرجنا المجاز-. ويظهر هذا أكثر ما يظهر في المشاعر، فهل سألت نفسك يومًا عن الحزن الاصطناعي؟ عن الحب الاصطناعي؟ عن الاشتهاء الاصطناعي؟ فهذه أشياء يستحيل وجودها في الآلات إلا محاكاةً ولن يكون يومًا لها اختبارًا. ومما يتداول اليوم اختباراتٌ لتقييم الذكاء الاصطناعي، وله طرق كثيرة كقياس الرياضيات مثلًا. وإنّ كل اختبارات الذكاء المطبقة على الآلة يظهر فيها التأنيس، فهم لم يعطوا الآلة شيئًا إلا وقد استخلصوه من البشر، حتّى مجموعة التجريد والتعقل ARC والموضوع عليها مكافأة مليون دولار، حتّى هي مستخلصة من النظر في عقول البشر. لكن كيف سيكون اختبار الحب الاصطناعي؟ كيف نقول إنّ الآلة غلبت البشر في الحب؟ أو أنّ هذه الآلة أحزن من البشر، أو أن آلة أشد فرحًا من آلة، أو أن نصنع خوارزميات نعطيها الآلة لتجرب شعور شرب الماء البارد على الظمأ، أو شعور فراق حبيب أو شعور مناجاة الله ليلًا. ويمتد هذا من المشاعر إلى متفرداتنا عن الجماد كالإرادة والفاعلية والوعي والقصدية وغيرها.
أرأيت استغرابك كيف لآلة أن يكون لها شيء من هذا؟ فإن هذا ما يجب في التعقل كله، ولكن لأن الناس عمدوا إلى التعقل فحصروه في الذكاء ثم عمدوا إلى الذكاء فحصروه في الإنتاج فقد وصلنا لهذه الحالة من القول بإمكانية تعقل الآلة وغلبتها للبشر. وإنّ الذكاء من الأشياء التي يستحيل تعريفها وإنّ أي تعريف له لابد أن يكون الذكاء نفسه داخلًا بخفاء في المفردات فيكون عندها الدور. والذكاء كالحب والحزن وغيره، لا تعريف جامع له، ولكن البشر يعرفونه من أنفسهم إذا رأوه وشعروا به. وإنّ قولي هذا يدخل فيه حجج كثيرة أهمها حجج الفيلسوف جون سيرل John Searl في الغرفة الصينية وغيرها. وقد أحسن إييقر في بحثه إذ سمى الذكاء الاصطناعي بالتقليد الخوارزمي Algorithmic Mimicry ويعني أن هذه البرامج لا تعدو كونها خوارزميات تحاول تقليد البشر ومحاكاتهم في شيء مما اختصوا به [2].
واستحالة التعقل للجمادات التي أقصدها لا تدخل فيه بداهة ما كان من غيب أو معجزة، ولهذا أمثلة من النقل كثيرة، منها ما كان من الجذع عندما حن لرسول الله، وتسبيح الجمادات، وعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وغيرها. وتحرير هذه الحجة في الاستحالة سأخرجه في مقالة مفردة إن شاء الله.
وإن من تأنيس الآلة تشبيه ومقارنة أدمغة البشر بمعالجات الحواسيب أو بعوامل خوارزميات الذكاء الاصطناعي. فتجد نِك بوسترُم Nick Bostrom -وهو كبيرهم الذي علمهم غلبة الآلة- يبحث في تحويل عمليات الدماغ لتقاس بعدد العمليات الحسابية في الثانية FLOPS واتبع هذا النهج كثيرون قبله وبعده [3]. ولو كانت أدمغتنا هكذا لكنا نحسب معادلات معقدة في أجزاء من الثانية، ولكنك تجد الواحد فينا لا يضرب رقمين ولو صغيرين إلا وهو مستعمل آلة حاسبة. وتجد من يقيس ذاكرة البشر بنفس مقاييس ذواكر الحاسبات ومنهم من يقابل معاملات معادلات الذكاء الاصطناعي بعدد خلايا الأعصاب ويقول إن جاوزناها عددًا فقد غلبناها عقلًا. وهذه المقارنات خاطئة من وجوه كثيرة حتى لو سلمنا بكثير من مسلماتهم، ومنها: اختلاف طبيعة المادتين فهذا سلِكون وهذا كربون، وأيضًا اختلاف تقسيم العمل فهذا رقمي Digital وهذا تناظري Analog [4].
ومن التأنيس ما كان أصله في الإنسان خطأ ثم أنسنّا الآلة بهذا الخطأ. وأكبر مثاله حصر التعقل في الدماغ، وهذا قول موجودة أصوله في فلسفات اليونان الأوائل حتى قيل إن الجسد عائق للدماغ أن يصل إلى أقصى ما عنده من قدرات التعقل [5]. فأخذ هذا الخطأ علماء الذكاء الاصطناعي فقالوا بأن محاكاة الدماغ كفيلة بإخراج آلة كالبشر عقلًا، وهذا أصل قول مذهب الربطيين بمحاكاتهم لخلايا الأعصاب. يُهمل هذا القول ثلاثة عوامل لولاها لما وجد إدراك ولا عقل: الجسد والبيئة والمجتمع، ثم تفاعلها مع بعضها. فالجسد عندهم مقتصر على إدخال المعلومات وإخراجها، والبيئة إنما هي مكان تعقل الدماغ، والمجتمع شيء زائد لا حاجة لإدخاله في المعادلة.
أما الجسد فبجزئيه الداخلي والخارجي خرج الذكاء. وأقصد بالخارجي كل جزء متحرك وفاعل في شيء من خارجه. فأفعال هذه الأجزاء، كتعابير الوجه وحركة العيون والعضلات واستقبال المستقبلات، تؤثر في الإدراك وتعطي العقل صبغة فعلية غير ذهنية تمكنه من تمييز أشياء ما كان ليدركها لولاها. تخيل عقولنا لو ما خلق الله لنا أنوفًا؛ ما كنا لندرك روائح الأشياء ولما ارتبطت عندنا الروائح بذكرياتٍ ولما فُتن أحد بأحدٍ من عطره ولما علمنا خطورة شيء من رائحته ولما استمتعنا بالطعام والشراب، كيف إذن لو خُلقنا بلا أعين؟ بلا ألسن؟ بوجوه لا رسم فيها؟ بأصابع لا مفصل فيها؟ بقدر نقصان الجسد ينقص العقل، حتى إذا اختفى الجسد كله اختفى العقل كله. أما الجزء الداخلي فكل جزء يؤثر في الإنسان من داخله كالخلايا والبكتيريا والأمعاء والغدد والأجهزة وأمثالها. فمما جدّ في علوم الأحياء والإدراك أنّ من الهرمونات ما يعمل للإدراك والمشاعر، وأن جهاز المناعة له في معرفة الأخطار والثقة بالناس والقرب منهم، وأنّ القلب والأوعية يتعدى عملها من دورة الدم إلى التعقل والتنبه والتموقع والتحسس، وأنّ بكتيريا المعدة لها في كل عمل الإدراك حتى الذاكرة والمشاعر [6]. فهل بعد هذا من مقال لقائل يحصر التعقل في الدماغ وحده؟
أهل علوم الإدراك يدخلون البيئة والمجتمع والسياق فيسمونها العقل المُكتنَف Embedded Mind. فالعقل ليس شيئًا مجردًا بل هو تبع لكل شيء عاش في كَنَفه أو استعمله ليتعقل ويزداد ذكاءً. فالبيئة تُخضع الحي لأمور ثم تحده بحدود وترمي إليه باختيارات فيخرج إدراكه وهو يعمل بمقتضى ما جُبل عليه من محددات. ويدخل في البيئة كل شيء، حتى قوانين الفيزياء وما حدّه الله للبشر من سبل العلم والمعرفة. بل إن غايات العقل وأهدافه ورغباته ونزواته وشهواته كلها محدودة بحدود بيئته، إلا ما فطره الله عليه من النظر في السماء وطلب القرب منه وخروجه من قيود ما حوله. والعقل المجرد ليس عنده معنًى لأي شيء إلا إذا ظهر في بيئة تحيطه، فالبيئة هي التي تضفي على الأشياء معانيها [7]؛ وعليه فالبيئة هي مشكّلة العقل وبقدر تغييرها يتغير العقل. والمجتمع أخرج أشياءً ما كان للعقل أن يدركها لولاه، وأولها اللغة. فلولا وجود غيرك من البشر ما كنت لتعرف شيئًا اسمه اللغة. وإن كانت مبتدئات اللغة شيء فطري كما يقول نعوم تشومسكي إلا أنها لن تخرج لو كنت وحدك في هذه الدنيا، لكن الحاجة للتواصل أخرجتها منك. ومن مخرجات تجمعات البشر: الحضارة والقوانين والفنون والآداب الإجتماعية والتجارة وما فيها من مقايضة ومساومة، حتى الرجولة والأمومة والأخوّة والصداقة وغيرها من المتطلبات لطرف ثانٍ. وحتى المعارف والاكتشافات والمخترعات ما كانت لتصل لولا انتشار البشر، فكثرة البشر ترفع ذكاء أفرادهم حتى إن قلّوا قلّ ذكاءهم. وهذا عالم الإدراك جاري لُبيان Gary Lupyan معنونٌ ورقة له بقوله: لا ذكاء إلا في سياق المجتمع [8].
فلو خُلق البشر بأدمغة بلا أجساد لما كان لهم سبيل إلى أي تعقل ولكانوا أحجارًا صماء. وحتى لو فرضنا أنّ معرفة ما في الدماغ كفيل بصنع عقلٍ كعقلنا، فكيف السبيل وقد تقطعت أسبابها ورمامها. فهذه دودة الربداء الرشيقة درسها علماء الأعصاب عقودًا ودرسوا كل خلية عصبية فيها وجمعوا كل ارتباط بين هذه الخلايا حتى اكتمل الجمع فصار عندنا الشكل العصبي الكامل لهذه الدودة. ومع هذا الجمع إلا أننا لا نزال لا نعلم كل سلوك الدودة ولا نفهم عمل دماغها ولا نعلم وظيفة كل عصب فيها، والقصور أكثر من هذا [9]. هذا والدودة فيها 302 خلية عصبية فقط، ودماغ الإنسان فيه قرابة ال90 مليارًا! وعندما عمد قومٌ من علماء الأعصاب إلى مقاربة خلية عصبية في فأر احتاجوا ما بين 1000 إلى 2000 خلية اصطناعية ليصلوا إلى توافق بنسبة 99% ولا يخفى أثر 1% في تغيير الدماغ كله، ويظنون أن زيادة النسبة قد يكون بمضاعفة الخلايا الاصطناعية أضعافًا كثيرة أسّيّة [10]. ثم إنّ هذه المقاربة هي نموذجٌ يقارب نموذجًا لنوع واحد من خلايا أعصاب الفأر. أما الجرد المطلق لكل مدخلات ومخرجات خلية عصبية واحدة فهي مستحيلة كما يقولون.
2) نقد البيانات
لو شئنا أن نَجمع أسباب تعاظم الذكاء الاصطناعي في عصرنا لكانت البيانات قطعًا أهمّها وأولها سببًا، ولو وازنتها ببقية الأسباب كقوة الحواسيب وتطور الخوارزميات لوزنتهم ولطاشت الأسباب. وآيات هذا كثيرة، من ذلك أنّ أم خوارزميات تقنيات تعلم الآلة (الشبكات العصبية Neural Networks) عمرها يزيد على ثمانين عامًا، وكثير من تطويراتها وتحسيناتها انطلقت في القرن الماضي، بل إن نقدها في الستينات الميلادية كان حطب قِدر الشتاء الأول للذكاء الاصطناعي، وهو زمن جفّت فيه ينابيع الدعم للمشاريع وتوارت الأبحاث فيه منتظرةً الربيع. والربيع الذي نحن فيه فجّرت البيانات ينابيعه وأشرقت كروت الشاشة شمسه حتى انتشر الضياء وازدهرت تطبيقات الذكاء وارتوت بضخامة هذه البيانات. ولو نظرت إلى بيانات كبار تطبيقات الذكاء الاصطناعي لهالتك الأرقام. فشركة OpenAI قال باحثوها إنّ نظام GPT-3 تعلّم على نصف ترليون كُليمة (تقريبًا عشرة ملايين كتاب) [11] ويُقال أن GPT-4 تعلم على ضعف هذا العدد 25 مرة! ولو قرأ الإنسان هذا العدد من الكلمات لاحتاج مليون سنة ملازمًا كتابه لا ينام عنه ولا يسرح. وOpenAI ليست بدعًا من الشركات، فطبيعة الذكاء الحالي حاجته لكمية بيانات هائلة للتدرب. لهذا فنقد البيانات، جمعًا وجوهرًا، هو نقد للذكاء الاصطناعي في عصرنا وأي ذكاء لا يقوم إلا بها.
إن كان عندك مطلوبٌ تريد تعليم الآلة عليه؛ فأول شيء ترومه جمع البيانات المعينة للآلة على التدرب؛ وأقصد بالتدرب هنا فرع من الذكاء الاصطناعي تتعلم الآلة فيه بالإحصاء فتستخلص رياضيًا سمات عامة بين البيانات. ليكن مطلوبك التعرف على الوجوه مثلًا، إن كان كذلك فبديهة بياناتك ستكون صورًا لوجوه في مختلف البيئات والزوايا والألوان. ولو كانت بياناتك كلها لرجال بيض لعسر على الآلة معرفة وجوه النساء مثلًا ومن كانت بشرته غير بيضاء. ولأن هذه الأنظمة احتمالية، فاختلاط البيانات قد يُقلل من احتمال شيء ويرفع آخر. مثلًا ذكاء جوجل في التعرف على الصور هاج الناس عليه وماجوا في 2015 لتوهمه مرة أن صورة رجل أسود كانت لغورِلا. كيف حلت قوقل هذه المشكلة؟ منعت وسم القردة والشامبانزي والغورِلا كي لا تتعلم عليها الآلة [12]. والأمثلة على هذا أكثر من أن تُحصر.
لذلك هذا النوع من الآلات لا يُضمن، لأنه رهين البيانات وتوزيعها وترتيبها فقد يغيب عليك شيء في البيانات تظنه هيّنًا لا نفع فيه لكن الآلة جعلته من السمات التي تقرر عليه، وهذا من الاختصارات التي قد تتخذها الآلة ونحن عنها جاهلون. مثلًا: درّب باحثون آلة لتمييز صور أمراض جلدية فتحكُم الآلة إن كانت الصورة تُظهر ورمًا خبيثًا أم حميدًا [13]. وجدوا أن الآلة تحكم على أي صورة فيها مسطرة بأن الورم فيها خبيث. ما السبب؟ لأن بيانات التدريب كانت الأورام الخبيثة فيها مسطرة قياس (وهذا يفعله الأطباء لقياس أطوال الأورام)، فالآلة هنا لم تتعلم تفاصيل الأورام أو أحجامها أو أشكالها، بل تعلمت أن وجود مسطرة في الصورة دليلٌ أن المرض خبيث. ومثال آخر أن علماءً صنعوا برنامجًا ليحدد إن كان في الصورة دبابات أم لا، ولمّا جربوه وجدوه قد نجح فيما أرادوا. ولكن لمّا تفحصوه وجدوه لم يتعلم على مدافع الدبابات ولا أشكالها ولا أي شيء فيها، بل صادف أن في بيانات التعلم كانت كل الصور التي فيها دبابات كانت السماء غائمة فتعلمت الآلة أن المراد أثر الضوء والظل على الصورة.
في الأمثلة السابقة تحديد البيانات المطلوبة ليس بصعب، تريد برنامجًا للتعرف على الوجوه؟ جمّع صور وجوه، برنامجًا لتحديد الأورام؟ جمّع بيانات أورام. لكن ماذا تفعل لو كان المطلوب ليس له بيانات محددة معروفة؟ أو أن جمعها محال حتى لو عُرفت؟
من المطلوبات التي لن تجد بيانات جامعة لها: الجمال، وأقصد به معناه العام في جميع الموجودات، ومعناه الخاص المتفرد في آحاد الأصناف. هل عندنا بيانات (أو حتى يُقدر على جمعها) لمن جمُل من البشر؟ لجمال الطبيعة؟ لجمال الفنون والرسوم؟ فكيف بالأشياء التي جمالها في تفردها وندرتها فإن كثرت أو قُلّدت قبحت. والندرة ضد ما تريده الآلة من كثرة البيانات ووفرتها. ومن هذا جمال الآداب والحكم والأمثال، فهذا الحارث بن عباد عندما طُلب منه القتال في حرب البسوس التى قامت بسبب ناقة بين تغلب وبكر قال: هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل. وقوله هذا سارت به الركبان حتى صار يُقال في صغار الأمور قبل كبارها وفي أشياء لا نوقٌ فيها ولا جِمالٌ، بل يقال حتى في عصرنا هذا الذي حروبنا فيه بالبنادق والدبابات. ولو قال قائل: "هذه حرب لا بندقية لي فيها ولا دبابة" لكان قوله أقرب للنكتة منه إلى الحكمة، فانظر كيف أدرك العرب جمال عبارة واحدة متفردة دون طلب آلاف الأمثلة عليها ليظهر لهم جمالها. أما الآلات الحالية فتعرف الجمال من كثرة ذكر الناس له بالخير أو ارتباطه في بيانات متعلقة حول مفهوم الجمال، أو تترك الجمال كله وتنظر لشيء يُمكن قياسه. ومن هذا أنظمة التوصيات في مواقع الفديوات والأفلام، فهي عندما توصيك بمشاهدة شيء إنما تنظر لماضيك في المشاهدات وتقاربه بين من كان ماضيه كماضيك فتقترح لك شيئًا أعجبه لعله يعجبك. ثم إن التعلم من البيانات وحدها يقتضي التقليد والمحاكاة وهذه وإن كانت نافعة خاصة للمبتدئين إلا أن نتاجك كله سيكون مستوحًى من غيرك وهنا يقل التعميم والإبداع والتجديد ويضمحل.
ومن المطلوبات ما تقدر على جمع أمثلة له، لكن يستحيل عدها كلها عدًا لأنها لا نهاية لها، والبشر يعرفونها طبيعة في نفوسهم لا استقراءً ولا تمثيلًا. والأمر يشتد عندما تكون العلاقة بين شيئين بعيدة جدًا حتى تغيب عن كثير من البشر إلا من فكّر وأبدع. ومثال على هذا: الحس السليم، فقد نقدر أن نجمع بعضها لكن يستحيل عدّها كلها لأن بعضها خفي لا نعرف أننا نعرفه وبعضها شديد البداهة كقولك إنّ الشيء إذا أُخذ منه ينقص وإذا زيد فيه زاد، أو أنّ الأشياء تبقى كما هي إذا شاح عنها بصرك إلا بتحريك محرك. أكبر مشروع لجمع بيانات الحس السليم خرج في عام 1984 وسُمي بCYC [14]، وقد كان أصحابه يبشّرون بأن عند اكتماله سيكون الذكاء الاصطناعي المشابه للبشر قريبًا منّا. هدف المشروع كتابة كل البدهيات وبيانات الحس السليم التي عند البشر، واسمه CYC مختصر من كلمة موسوعة الإنجليزية، ولكنهم كانوا يقولون هو ليس موسوعة بالمعنى العام بل هو موسوعة بدهيات تمكن الآلة من فهم الموسوعات التي يفهمها البشر. وكان أصحابه لكتابته يقرؤون الصحف والكتب والمجلات ويسجلون كل معلومة بدهية لم يذكرها الكاتب واعتمد على فهم القارئ لها؛ وهذا يُظهر لك صعوبة عدّ البدهيات إذ أنهم لم يفكروا في أنفسهم ما يريدون ثم يكتبونه بل احتاجوا لمصدر يقرؤونه ويمحصّونه ليستخرجوا منه البدهيات المرتبطة بالمقال. وكتابتهم للبيانات كتابة منطقية رياضية مستعملين عبارات المنطق الرياضي ليتسنّى للآلة استعمالها. فتجد محمولات مثل "خاطئة لو كانت المدخلات متكررة" فلو استعملوا هذا المحمول مع دالة الأمومة تنتج عندنا عبارة "الأم لا تكون أمًا لنفسها". ولا يخفى بداهة مثل هذه العبارة للإنسان ولكن تحويلها لعبارة رياضية هكذا مما يساعد الآلة على فهم كثير من البدهيات. والمشروع لا يزال يُعمل عليه، وعدد العبارات البدهية المكتوبة حتى الآن أكثر من 25 مليون عبارة. وقد أكثر الفلاسفة والعلماء من نقد هذا المشروع من أول يوم أُعلن فيه [15]. ولا يخفى أهمية المشروع، بل له تطبيقات كثيرة اليوم منها في الطب والصيدلة والاستخبارات وغيرها. لكن، أن ثُزعم القدرة على جرد كل شيء في بدهيات الإنسان ثم الزعم بأن عندها ستكون الآلة كالإنسان فهذا زعم بعيد محال وقوعه. قد يقول قائل "ولكن من نماذج اللغات الضخمة LLM اليوم ما يعرف الحس السليم"، سأرجئ الرد إلى فصل نقد الذكاء الاصطناعي الحالي لأن مطلبي هنا تحديد أوجه قصور البيانات في ذاتها لا نقد الاستنتاج منها.
ومن أوجه قصور البيانات ما يُعرف في فلسفة العلم بقصور التحديد Underdetermination of Theory by Data أي وجود عدة نظريات تفسّر نفس البيانات، فالبيانات ليست الفيصل. مثال على ذلك: نظام المجموعة الشمسية، فبيانات مسارات الكواكب ليست كافية لتحديد هل الأرض مركز المجموعة الشمسية أم الشمس، أو سبب وجود حفرة على سطح القمر فقد يكون نيزكًا أو بركانًا أو أنّ أهل الفضاء حفروها. عندها العلماء يفصلون بين النظريات بمعايير أخرى كالبساطة والترابط بين مجموع النظريات في الباب وقدرة النظرية على التفسير والتوقع. وأسباب هذا القصور كثيرة، وأهمها في ذات البيانات، كقلتها أو تناقضها أو خطأ مشاهدتها وغيرها. وهذا القصور يتعدى العلوم إلى كل معلوم فمحال على أي أحد أن يحيط علمًا بتفاصيل كل شيء، فنأخذ من البيانات قدر حاجتنا لها ولا نطغى فلا نحكم ولا نعتقد إلا إن علمنا كل شيء. بل إن العلم عند العرب القطع بالظن بعد رجحان الدليل وإن كان قليلًا، كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾. نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية وكان من الشروط أنّ من جاء من مشركي قريش يريد الإسلام فعلى المسلمين رده. وقد كان؛ فردّ المسلمون رجالًا كثرًا، ثم هاجرت بعدهم نساء يردن الإسلام وجاء أهلهم المدينة يريدون من رسول الله إرجاعهن كما هو العقد بينهم وكما رد الرجال قبلهن؛ فأنزل الله هذه الآية ينسخ العقد ويستثني النساء من الشرط رحمة بهن من الفتنة لو أُرجعوا. والشاهد في الآية لفظة علمتموهن، ولا يخفى أن معرفة إيمان أحد يُحال اليقين التام فيه بل الظن والترجيح، ومع هذا إلا أن الله سماه علمًا. لذلك فوجود البيانات والقرائن ليس وحده المفضي إلى الاستنتاج والعلم لأن البيانات أبدًا أقل من المطلوب. ولو كانت كل البيانات عن أي شيء كاملة الوجود لما تمايزت عقول البشر ولما ضل من ضل ولا اهتدى من اهتدى، بل إعمال العقل جزء منه جمع القرائن وجزء منه الاستنتاج والاستقراء والاستنباط وجزء منه مبادئ أوليّة ومعارف في فهم العالم والأشياء قد لا تظهر لنا إلا خفية. ولست أقول بأن وجود البيانات الكاملة يفضي إلى العلم الكامل، فإن النقل (علم الغيب) والعقل (علوم المتراكبات ومبادئ الشك الكمّيّة) ينفيان ذلك.
والبيانات ليست صبغة واحدة مطلقة الفهم والوضوح، فما كل البيانات كالأرقام الواضحات يعلمها البشر وتعلمها الآلة بلا تمييز أو تفريق، ولا هي كمجردات الفيزياء لا تتغير ولا تتبدل إن زادت أو انتقلت لمكان غير التي هي فيه. بل من البيانات ما هو شديد الخفية ومتضمنة للوازم القبل والبعد، وإن تراكبت وتشابكت زادت خفية وتضمينًا. ومثال ذلك السياق، فالحَمار جميل في الورود قبيح في الجروح، والدماء مطلب في الحروب مغرم في العهود، وصفار البقر يسر الناظرين وصفار النظر يغم الأقربين. فلا عجب أن السياق حاكم. وإنّ من تضمينات البيانات ما يحوّل المعنى حسب ذكاء السامع. فكلمة "لا حكم إلا لله" حق لا مرية فيه، لكنها لمّا قيلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فهم مراد الخوارج وقال: (كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بهَا بَاطِلٌ). فالناس قد يقولون شيئًا ويريدون غيره.
والسياق وفهمه يدخل في معضلة الإطار The Frame Problem وهي مسألة في فلسفة العقل والذكاء الاصطناعي تظهر عند برمجة الذكاء الاصطناعي، خاصة المبرمج بالعبارات المنطقية. لب المعضلة هو كيف نُعلّم الآلة ماذا تُغيّر وماذا تُثبت في برنامجها إذا فعلت الآلة أمرًا وكان له تبعات، أي ما الإطار الذي تعلم عنه الآلة كل شيء وله علاقة مباشرة بأفعالها. مثلًا: لو كانت الآلة في غرفة مغلقة وعندها معلومات عن حالة الغرفة مثل درجة الحرارة ولون الجدار وأبعادها وغيرها، لو فتحت الآلة الباب فما المعلومات التي تغيرت وما الذي بقي كما هو؟ كيف تبرمج الآلة أن فتح الباب لا يُغير في لون الجدار؟ وأن فتحه يبدل الهواء فيغير درجة الحرارة؟ وأنه لا يُغير أبعاد الغرفة إلا هدمها أو بناؤها. وإن علّمتها على كل شيء في الغرفة، كيف لو نزلت إلى الشارع؟ كيف تعلم ما يتغير وما يبقى لكل فعل؟ كيف إذا ساقت السيارة؟ كيف تعلّمها أنّه من الأفعال ما يغيّر أشياء أو يتركها حسب السياق الذي هي فيه؟ وإنّ من السياق ما يظهر خفاؤه لمن تخيّل نفسه مكانه، وأنّى للآلة التخيّل وهي التي على انعدام السياق تعلمت وعلى المجردات تدربت.
ومضمنات البيانات قد تتلاشى إن حوسبت وتفاعلت ولا يبقى إلا ما فُهم قبل وقد تنقص المعلومات في البيانات بهذا، فعملية الجمع للرقمين 3 و2 تختصرهما وتحولهما لرقم 5 وتتلاشى المعلومتان لتظهر لنا معلومة وحيدة، فكم من معلومة اختفت أسبابها وبقيت آثارها. وإن من البيانات ما يكون تضمينها ظاهر في مجموعها غائب في أفرادها فيكون الشيء عندها أكبر من مجموع أجزائه. ويدخل في هذا علوم المتراكبات Complex Systems الدارسة للأنظمة المكوّنة من أجزاء كثيرة تتفاعل مع بعضها لتخرج صفات على مستوى النظام ليست موجودة ولا مدّبرة من نفس الأجزاء، بل من يدرس الأجزاء مفردة مجردة لن يجد هذه الصفات فيها [16]. وأمثلة هذا كثيرة، منها مناخ الأرض وخلايا الأعصاب وممالك الحشرات وغيرها. والبيانات المجردة قد لا تظهر المعاني فيها إلا إذا نُظر إليها نظرة كلية جامعة من أعلى. فالنظرة الكلية للشيء تختلف عن النظرة الفردية لكل جزء من أجزائه، فقد يكون في الكل شيء غائب عن الجزء وقد تجد في الجزء ما لن تجده في الكل ولو عكفت عليه.
وجميع أقوال البشر من غير الوحي لابد خاضعةٌ لمشاعرهم وما يُخفون في صدورهم، بل لا أحد يتكلم ولا يسكت إلا وقد سبق ذلك الفعل حالة في مزاجه مازجت ظنه وفعاله. بل وقد يطول هذا أبعد من اللغة إلى الصور والأصوات وغيرها مما تتعلم عليه الآلة اليوم، فأنا إن صورت شيئًا ما صورته إلا لحاجة في نفسي أو لطبعٍ تطبعت عليه أو لحالتي عنده من فرح وسرور وحزن وفخر وغيرها. فكل شيء يخرجه ابن آدم لابد وأن يترك أثرًا من نفسه فيه، وهذا يطال كل شيء حتى ما يُظن فيه التجرد كالعلوم، وإنّ من العلوم اليوم ما قد تشبّع بثقافة مخرجها. فمن يتعلم على أفراد هذه الأشياء كالآلة فقطعًا سيأخذ من هذا الأثر، أما البشر فإنّ هذا الأثر هو من صميم أنفسهم وطباعهم، وأمّا الآلة فما حاجتها لشيء من هذا؟ ما حاجتها للفرح إن تعلمت على نصوص كاتبها قد انتشى فرحًا وهو يكتبها؟ كيف بالطرب والنشوة والخوف والغضب والحب والغرام وغيرها من صفات البشر الحيوية الصرفة؟ نتيجة هذا آلة بطباع تشبه البشر ولكنها لا تؤثر عليها كما تؤثر على البشر. فالقلق والاكتئاب وأمثالها على ضررها الظاهر إلا أنّ لها نفعًا خفيًا لبني البشر كالإنابة والتحوّط والتردد عن الأخطار وغيرها [17]. فلأن جسد الآلة غير حيوي ولا عقلها، فهي تتعلم طباع البشر وأحاسيسهم وحالاتهم الحيوية الظاهرة دون التأثيرات الباطنة النافعة والضارة للجسد الحيوي. وهذا الشيء خفي في البيانات وخفي عندما تنتج الآلة مثله بعد التعلم، وخفاؤه لا ينفي وجوده.
ومن هذه التضمينات الآدمية ما هو شديد الوضوح في الحالين، أي في البيانات المجردة ومخرجات الآلة. ومثاله تحيّزات البشر وعنصريتهم وحميّتهم، فهذه ظاهرة في أفراد البيانات وإن رام صاحبها إخفاءها. وإنّ من أشد ما يكابده علماء الآلة وأصحاب الشركات معرفة التحيّز في آلاتهم وتقليله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وما أكثر الأمثلة على إنتاج الذكاء الاصطناعي لنصوص وصور فيها من التحيّز والعنصرية ما فيها. جرّب أي برنامج لتوليد الصور واسأله أن يرسم رجلًا سائحًا غنيًا يعطي فقيرًا؛ ستجده يرسم الغني رجلًا أبيضًا غربيًا ويرسم الفقير أسودًا شرقيًا. وقد يطغى أصحاب هذا الذكاء الاصطناعي فيدربونه بأقصى ما يقدرون من نبذ العنصرية وطلبًا للمساوة؛ فيخرج بأشد ما أنت ناظر من التحوير ولي أعناق الأحداث لتوافق هواهم ومنطلقاتهم. ومن هذا ما فعله ذكاء جوجل جِمِناي Gemini قبل أشهر فكان يصور ملوكًا إنجليزًا سودًا وجنديات نازييات آسيويات وكان لا يداهن في أمور الشواذ ولو على حساب إنهاء حرب نووية [18]، حتى أوقفته جوجل معتذرة من أخطائه وأنها ما أرادت إلا خيرًا وتسامحًا. فالذكاء المعتمد على البيانات وتعديلات البشر لابد متحيّز لتحيّزاتهم وموالىٍ لما يوالونه، وشاهد هذا ما قاله صاحب مقالة حدود البيانات أنّ أي تصنيف للبيانات يخضع لحالة الناس السياسية والاجتماعية فيتركون ما يقدرون على تركه ويبقون ما لا يسعهم نبذه [19].
والعلم والمعرفة لا يتلقاها الإنسان من مطالعة الكتب وسماع المحاضرات ومشاهدة الناس، وكل هذا أعمال خاملة لا تعطي أحدًا إلا قشرة المعرفة. بل إن ّأحدنا إذا أراد تعلم شيء طالع المصادر وهو يمارس ويحاول، بينما الآلة المتدربة على البيانات فأقصى علمها ما كتبه البشر لا سبيل لها أن تجرب بنفسها ما تريد تعلمه. هب أن أحدًا أراد تعلم النجارة فراح واشترى كل كتب النجارة وسمع كل محاضرات النجارين وخرج إلى المصانع وشاهدهم يصنعون كل شيء من الخشب واكتفى بهذا ولم يمسك منشارًا واحدًا في حياته ولا دق مسمارًا ولا لمس خشبًا ولا صنع كرسيًا بل اكتفى بالنظر السابق. هل يستوي هو ومن نزل بنفسه إلى السوق وأخذ الخشب ونشره وقطعه وصنع منه أثاثًا من أنواعٍ شتى والتزم هذا سنينًا. فهذا مثل الآلة والإنسان، لا يستوي من يكتفي بالتلقي ومن يجاهد ويتفاعل مع كل شيء حوله بنفسه.
وحتى التعلم بمجردات البيانات ليس دليلًا على معرفة المتعلم ورجاحة عقله، خاصة الآلة. لأن ما قد يُظن أنه من مجردات البيانات هو معلومات مختارة مقصصة من كل ما يشوب البيانات كالتشويشات والطرفيات. مثال ذلك برنامج بيكُن BACON الذي قيل إنّه أعاد اكتشاف قوانين رياضية وعلمية بنفسه، ومنها قانوني الإنكسار وقانون كبلر الثالث لحركة الكواكب. لمّا تتبع هيفر Heeffer [20] البيانات المدخلة للبرنامج وجد أن البيانات المدخلة لقانون الانكسار مكتوب فيها جيبيّ الزاوية الداخلة والخارجة وهو كإعطائك القانون من المدخلات لأنّ القانون يقول بثبات نسبة جيب الزاويتين. أما قانون كبلر الثالث فأتى به البرنامج مستعملًا طريقتين من البيانات، في الأولى كانت البيانات المدخلة معدلة لتوافق قانون كبلر بل وعوامل معادلة كبلر كانت من البيانات فبداهة سيخرج البرنامج بقانون كبلر الثالث لأن المعطى هو قانون كبلر الثالث. وفي الثانية كانت البيانات عامة ولكنها منظمة ومرتبة ومحذوف منها ما يشوبها، وهذا كما قال هيفر ما لم يكن عند كبلر عندما صاغ قانونه الثالث.
وظاهرٌ أنّه في كثير من برامج الذكاء الاصطناعي يكون مستعملها ومبرمجها عالمًا بما يريده قبلًا، ولا ينفي هذا فائدة كثير منها للعلوم والرياضيات مثل ألفا فولد AlphaFold للأحياء ولين Lean للرياضيات، بل وشات جي بي تي ChatGPT نافع لمثل هذا أيضًا. لكن أقصى ما تعطيك إياه البيانات هو الترابط بين الأحداث، أما العلاقة السببية فلا سبيل للبيانات أن تخرجها لك [21]، لأنّ السببية لابد فيها من التتبع العقلي والمشاهدة والتجربة وقابلية العقل للفهم السببي، أما الترابط فيكفيه رصد البيانات لكلا الحالتين لنقول إنّ هذه الحالة ارتبط حدوثها بتلك الحالة وهذا غير الجزم بأن الحالة هذه هي سبب الحالة تلك، وهذا معدوم في البيانات مالم تكن مكتوبة صراحةً. ولابد هنا من استحضار قاعدة: الارتباط لا يقتضي التسبب. فارتباط حدثين لا يعني أن أحدهما سبب الآخر، كما في حديث رسول الله عندما توفي ابنه إبراهيم فظنّ الناس أن الشمس انكسفت لوفاته.
من مسائل الفلسفة التي خاض فيها الناس كلهم مسألة علم الإنسان وإدراكه هل هو فطري أم مكتسب. أي، هل يولد الإنسان صفحة بيضاء ثم تملأ بالتجارب والمشاهدات أم أنه يولد بأساسات وعلوم أولية منها يفهم العالم ويتفاعل معه. والحق ضرورة وجود ضروريات أولية وقابليات قبلية وفطرة إلهية خلق الله الناس عليها بها يحسون ويشعرون ويعقلون وينتحون، ومنها ينطلقون ويحيون، وهي التي أعطتهم الصفة الآدمية والهيئة الخلقية التي جعلت الدماء تجري في عروقهم والنبضات تسري في أدمغتهم، ولو ما وجدت لكانوا جمادات صماء لا تحس ولا تعقل ولا تتكاثر ولا تتفاعل. فالبشر وُجدت عقولهم ثم ازدادوا علمًا بالبيانات والمشاهدات أما الآلة فلا "تعقل" حتى تُغذى بالبيانات كمًا كبيرًا. فشتان بين من كانت البيانات له زيادة في العلم وبين من كانت له صناعة للعقل. ثم ما البيانات التي نحتاجها لصناعة "عقل" كعقل البشر؟ لا نعلم، فكل ما نفعله هو جمع كل البيانات التي بين أيدينا ثم نرميها على الخوارزميات فنقول لها تعلمي وائتينا عقلًا مصطنعًا. ولا أنكر أن ذكاء البشر معتمد جزء منه على البيانات فكل نقد للبيانات المجردة يرجع للبشر، ولكن بحسبه. وعلى هذا إلا أنّه شتان بين من يأخذ بياناته بنفسه وبين من بياناته لا تأتي إلا من أمر غيره. فالبشر هم يجمعون بياناتهم بأنفسهم يأخذون ما يريدون ويتركون، يكملون ما نقص ويستزيدون، تنفعهم قبليّاتهم فيتخيلون ويُكثّرون، أما الآلة الحالية فبياناتها تبع لصانعها وما جمع، لا ترى إلا ما رُئي لها، لا بيانات لها إلا ما قدر على وصفه البشر {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}.
3) نقد الخوارزميات
أتمتة الخوارزميات سحرنا أهل هذا الزمن، فبها طار البشر وصعدوا القمر، وبها تحرك الجماد ونطق الحجر. والذي أطلق العنان للخوارزميات هي الحواسيب إذ إنها جعلتها تعمل من تلقاء نفسها دون تدخل البشر؛ ودليل هذا أنّ البشر عرفوا الخوارزميات وكتبوها من آلاف السنين وما وصلوا معشار ما نحن فيه، فأهل بابل كتبوا خوارزميات في حل الجذور، وإقليدس اليونان في إيجاد القاسم المشترك الأكبر، ومحمد بن موسى الخوارزمي، الذي سميت الخوارزميات باسمه كتب في حل المعادلات التربيعية. فأتمتة الخوارزميات بالحواسيب بث فيها ما يشبه الروح فجعلها تحسب وتحلل وتقارن وتنتج. وإن تورنج أول ما أسس علم الحاسب النظري كان يتخيل الآلة بشرًا عنده تعليمات كتبت في ورقة وعمله أن يحسب أول ما فيها إلى أن يصل آخرها فيكتب النتيجة مستعملًا ورقة وقلمًا فقط، بل واشترط ألا يُعمل البشري خياله وإبداعه وفكره. وفي الماضي كانت هذه الوظيفة لقوم سُموا بالحاسبين، ومنه سميت الحواسيب حواسيبًا. أما المدخلات والاشتراطات الذي وضعها فُعرفت بالطريقة الفعّالة Effective Method ومنها خرجت أطروحة تشيرش وتورنج في أن آلات حساب المنطق (آلة تورنج) قادرة على حساب أي دالة مكتوبة بالطريقة الفعّالة. ومن هذه الأطروحة توهم خلق كثير أنها تقول أيضًا "أي عملية رياضية لوصف أي ظاهرة علمية، حتى عقول البشر، تقدر الآلة على إنتاجها ومحاكاتها" وهي من الخطأ بمكان، وإن قالها كبار الفلاسفة والعلماء، وأحسن كوبلاند في مقالته إذ أفرد فيها فصلًا ينقد فيه خلل الناس في فهمهم للأطروحة وتحميلها ما لا تحتمل [22].
أمَا وقد علمنا أن لب الذكاء الاصطناعي في الحواسيب وأنّ الحاسب محركه الخوارزميات، فإنّ أي نقد للخوارزميات يرجع ضرورة للذكاء الاصطناعي. ولأن الخوارزميات ما هي إلا تطبيق الطرق الفعّالة على الرياضيات، فإننا ننتهي إلى أنّ الذكاء الاصطناعي جزء من الرياضيات. وعليه، فحدود الذكاء الاصطناعي في أقصاها حدود الرياضيات والأنظمة الصورية. وأهم حدٍ ضيّق في اتساع الرياضيات دليلان عُرفت بمُبرهنتي جودل.
كان يُؤمّل الرياضيون بكمال الرياضيات واتساقها. يعنون بالكمال أن كل عبارات الرياضيات الصحيحة يمكن برهنة صحتها. أما الاتساق فيعني أنه لا تناقض في النظام. وما كان عندهم من دليل إلا الظنون والآمال. ثم جاء جودل بمبرهنتيه فتلاشت ظنونهم وهُدّمت فوق رؤوسهم آمالهم. والذي فعله جودل، باختصار مخل، أنه حول عبارة "هذه العبارة لا برهان عليها في النظام" من عبارة لغوية إلى عبارة رياضية. فلو كان للعبارة برهان فقد سقطنا في التناقض (ضد الاتساق) وإن لم يكن لها برهان فهذا هو النقصان (ضد الكمال). ومحصلة مبرهنتي جودل أنّ أي نظام متسق يقدر على احتواء عمليات الحساب والأرقام فهو لا بد محتوىٍ أيضًا على عباراتٍ لا برهان عليها، وأن إثبات الاتساق من داخل النظام محال. وإثبات النقصان الذي جاء به جودل، يرجع للذكاء الاصطناعي بالنقصان تبعًا.
استعمل جمع من العلماء برهان جودل لإثبات سمو عقول البشر فوق الآلة، في طليعتهم الفيلسوف لُوكَس والفيزيائي بِنروز [23]. فيقول لُوكَس إنّ العبارة الرياضية الصحيحة التي لا برهان عليها رياضيًا، إذا رآها الرجل وتمحصها وجد من نفسه صحتها وإثباتها. مربط الفرس في كلام لُوكَس أن عبارة "هذه العبارة لا برهان عليها في النظام" علمنا نحن البشر صحتها بلا تدليل رياضي عليها (لأنه لا برهان عليها كما تقول هي) وعليه فالبشر أحسن عقولًا من الآلات الرياضية الصورية وترى صواب أشياء لا قِبَل للآلات بإثباتها. ومع هذا فإنّ الناس قد استدركوا على لُوكَس قائلين إن البشر ليسوا بمتسقين، فما أكثر الناس المؤمنين بفكرة ونقيضها أو القائلين بعبارة اليوم ثم ينقضونها غدًا. وقال دانيال دنت وهوفستيدر أنّ مثل العبارات السابقة تنطبق أيضًا على البشر، وضربا مثلاً عبارة "لا يُصدّق لُوكَس بهذه العبارة وهو متسقٌ" [24]. فكتب مارتن وإنجلمان ورقة ينقضان هذا الاحتجاج في أربعة حجج [25]، محصلتها أنّ البشر إذا قرؤوا هذه العبارة فهم واعين بالحيلة فيها وليس بمانع أحدًا أن يقول بصدقها، ولو أنّا افترضنا استحالة تصديقها لكنا قد جعلنا البشر أنظمة صورية رياضية، وهذا هو عين المصادرة على المطلوب. والآلة الرياضية ليست بخارجة عن نظامها فتقلّب أمرها في العبارة وترى وتفكر في مآلها، وهذه درجة للبشر فوق الآلة إذ هم يعون الأمور ويخرجون من المسألة فينظرون فيها من خارجها. ومن الناس من قال بصحة نتيجة لُوكَس وبنروز ولكن خطّؤوا استدلالهم، ومن هؤلاء المنطقي سِلمر الذي جاء بأكثر من حجة منطقية نتيجتها استحالة وصول الآلة لعقل البشر متبعًا مبرهنتي جودل وغيرها [26].
من آمال الرياضيين الأخرى تمام قرار الرياضيات، أي وجود طريقة تبت في أمر مسائل الرياضيات فتقرر إن كانت المسألة تُثبت أم لا، فلا توجد مسألة عالقة لا هي صحيحة ولا هي خاطئة. وهادم الآمال هذه المرة هو تورنج الذي ذكرته آنفًا. فقد نقض هذا باختراعه لمبدأ آلة (آلة تورنج) تُعطى برنامجًا ومدخلات ثم تخرج لنا النتيجة. ثم وضع آلة أخرى (آلة تورنج العامة) قادرة على محاكاة أي آلة تورنج. استعمل تورنج آلاته ونظرية كانتُر القطرية ليثبت وجود مسألة يستحيل البت في أمرها، عُرفت لاحقًا بمسألة التوقف. تَجسّد هذه المسألة في الواقع يعرفه الناس بالتعليق أو التهنيق، وهي حالة الجهاز إذا علّق في عمل شيء ولم يستطع لا حله ولا التوقف منه إلا بأمر خارجي كإغلاقه. وقد قيل إنّ أمثال هذه العمليات موجودة في عقول بالبشر، وممن قال بهذا بيتر كوقل في ورقته الذي نازع فيها من يقول بأن تفكير العقل نوع من الحساب [27]. ومن الأمثلة التي ذكرها على وجود عمليات لا تتوقف أن كثير أناس يتذكرون فجأة ردودًا مفحمة على جدالات سابقة وهم غير واعين بها. وهذا شبيه جدًا بمعيار الدحض عند فيلسوف العلم كارل بوبر إذ أن النظرية عنده لا تثبت صحتها إلا إذا استنزفت كل مساع الدحض. ومسألة التوقف هذه داخلة تحت جمع لا نهائي من المسائل مستحيلة الحساب، أي أنّ آلات تورنج لن تجد لها حلًا ولو قضت الدهر كله محاولةً حلها. ولولا أني التزمت كتابة ما يفهمه عامة الناس وأني خشيت الإطالة لذكرت لك بعضها، ولعلك إن بحثت عن الدوال مستحيلة الحساب بالإنجليزية noncomputable functions لوجدت بعضها.
استحالة الحساب ليست درجة واحدة، فبعض المسائل أشد استحالةً من بعض. يدرس هذه الاستحالات فرع في منطق الرياضيات يسمى تراتبية الحساب Arithmetic hierarchy. في قاع الهرم البرامج والمسائل الممكنة الحل دائمًا بآلات تورنج. ثم تُصعد الرتب بطريقتين: إما باستعمال السور الجزئي (وجود عنصر واحد ينطبق عليه القول) أو السور الكلي (جميع العناصر ينطبق عليها القول). فإن صعدنا باستعمال سور جزئي واحد على القاع ينتج لنا مسائل التوقف التي تتوقف عند عدد معين من الخطوات. والسور الكلي يُعطينا كل المسائل التي لا تتوقف الآلة فيها. فيصير عندنا: في القاع كل العمليات ممكنة الحساب، وفي الرتبة الجزئية الأولى بعض العمليات ممكنة الحساب، وفي الرتبة الكلية الأولى جميع العمليات مستحيلة الحساب، لكن لأن استعمال الأسوار لا حد له، فنقدر أن نصل للرتبة الثانية والعاشرة والألف، وفي كل رتبة نصعدها تشتد استحالة الحساب.
ومن المسائل التي لا تُحل؛ المسائل التي يستحيل كتابتها بصيغة صورية خوارزمية تستقبلها الآلة، ولو تأملنا في أصل الخوارزميات (سلسلة خطوات تُتبع، أو الطريقة الفعّالة المذكورة آنفًا) لوجدنا ما يهدم غلبة الآلة للبشر هدمًا ولعرفنا حينها منزلة الآلة من البشر حقًا، وأقصد هنا كل شيء يستحيل جمعه في خطوات صورية رياضية، وسأذكر لك بعضها:
متى تقول البشر عن شيء أنه جميل أو قبيح؟ هل عندهم نظام يُتبع وخطوات مفصلات بها يصدرون الأحكام فيحكمون بالقبح والجمال؟ قطعًا لا. إنما حكمنا على شيء بالجمال أن يكون قد بعث في أنفسنا شيئًا سرّنا بلا وعي منّا وتقصّد. وما من معيار وُضع للجمال إلا وقد كُسر في أشياء أجمع البشر بجمالها. والجمال ليس مجردًا عن حامله، فكل الفنون داخل فيها طلب الجمال. فمتى نقول عن قصيدة أنها بارعة الجمال؟ هل نتبع نظامًا ذا خطوات وقائمة بها المعايير فما دخل فيها أجزناه وما خرج منها قبّحناه؟ أضرب لك مثلًا على استحالة جمع المعايير: لو كانت الخطوات ثابتة مفصلة لكان أهم شرطٍ فيها خلوها من التناقض وإلا فقد فسد الجرد وبعد القصد، فكيف نصنع بوصف امرئ القيس لفرسه إذ قال: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا - كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ. فانظر كيف جمع الكر بضده الفر، والإقبال بضده الإدبار، ثم أكد فقال معًا. وأبلغ منه وأحسن، وأحكم منه وأنفع، قوله تعالى في أول سورة النحل: ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ تدبر الآية ترى فيها عجبًا. لو جمعت أقوال الناس في كل لغاتهم وفي كل حال من أحوالهم لكانت كلمة الإخبار عن القدوم أبعد ما تكون عن الأمر بعدم استعجال ذلك الذي قد جاء، وهذا عمل نماذج اللغات الضخمة في إنتاج النصوص، لكنك تقرأها هنا فتسبح الله خوفًا من هذا التحذير ومن شدّة بلاغة التعبير، ثم تجد نهاية الآية تزيدك تسبيحًا ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. فانظر كيف زاد اجتماع الأضداد الكلام جمالًا. وما هذا الذي ذكرت إلا مثالًا واحدًا على الجمال في الفن، فما بالك لو دخلنا في فروع الفنون الأخرى كالرسوم والعمارة والتلحين، وحتى ما اختلط بالجسد كتذوق الأكل وشم العطور واشتهاء الملذات وغيرها. وتذكر أن الطريقة الفعّالة المذكورة في أطروحة تشيرش وتورنج تُبعد أي إعمال للإبداع والذوق عند اتباع الخطوات.
ليس حديث الأخلاق ببعيد عن حديث الجمال، فأحسن الأخلاق لا نعرفها بموافقتها ترتيبًا خوارزميًا بل هي شيء مفطورة عليه نفوسنا وبرأ الله فينا حبها ومعرفتها. فلو أردت الإتيان بآلة تورنج يكون مُدْخلها خُلق ما وبرنامجها يقرر إن كان الخلق حسنًا أو سيئًا لاستحال ذلك الفعل لاستحالة الإتيان بخوارزمية رياضية تفرّق بين الأخلاق، هذا إن استطعت تعريف الأخلاق تعريفًا رياضيًا (وقل مثل هذا عمّا سبق وما سيأتي). وكمال الأخلاق عند العرب المروءة كما يقول سليمان الناصر، وهي مشتقة من المرء، ويُظهر لك هذا التصاق الأخلاق بالوجود البشري لا الرياضي. والمروءة ليست خلق المرء مع الناس وحدهم، ولكن منها مروءته مع نفسه ومروءته مع ربه، فهذه أخلاق لا قبل للآلة بها فليست الآلة مكلّفة ولا عاقلة لتعبد ربها ولا أخلاق المرء مع نفسه بمنطبقة على الآلة فالمرء مطلوب منه حسن أخلاقه مع نفسه فيزكيها ويطهرها، وأنّى للآلة فعل هذا.
ومن ضمن هذا النوع مسألة الوعي، فليس للوعي خطوات تُتّبع ثم تكون نتيجته وعي الآلة بنفسها وبمن حولها. ومنه أيضًا الحس السليم وهو ما يجده جميع البشر في نفوسهم حقيقة بلا حاجة للتدليل، وقد أطلت في ذكره في فصل نقد البيانات، فهذه أشياء علمها البشر من وجودهم في الأرض ومن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فلا توجد خوارزمية تعطيها مدخلاتٍ وتكون نتيجتها هل المدخلات من الحس السليم أم لا، بل حتى وصف الحق من الباطل ومعرفتهما وإثباتهما ليس للآلة سبيل لعلمه ما لم نُعلّمها، والرياضيات والنمذجة ليس لها القطع والفصل بين الحق والباطل، فبالرياضيات تُنمذج هيئة الأرض المسطحة وبها تصف كروية الأرض، أما القول الفصل فشيء من خارجها. ومن الأشياء غير الخوارزمية: العشوائية؛ فمن شروط الخوارزمية لأن تكون خوارزمية أن تكون حتمية، أي أنك لو استعملت خوارزمية بمدخلات ثابتة فالنتيجة يجب أن تكون نفسها ولو حاولت ألف مرة ما لم تتغير المدخلات؛ وعليه فالآلة لن تخرج بإرادتها عن أمرين: الخوارزمية المشغلة لها والبيانات المدخلة فيها. وهذا يمنعها من عمل ما تريده هي من تلقاء نفسها أو أن تنوي شيئًا ليس مكتوبًا عليها ومبرمجة عليه. فالآلة ليست بمشتهية شيئًا إلا ما قد برمجت عليه، ولا طامعة في حاجة إلا ما أُجبرت عليه، ولا متطلعة لغاية إلا غاية ما أُدخل فيها، جهِله الذي برمجها أم علمه؛ وهذا حمل جمعًا من الفلاسفة بالقول بأن في عقل الإنسان وِحدة لا نعلمها وظيفتها إنتاج العشوائية ليكون للإنسان إرادته، وإن كان هذا القول فيه تأثر بحوسبة العقل.
وما الذي ذكرت إلا يسير من كثير، وإلا فكثير مما نفعل أو نلتزم ما هو بخوارزمي، كالتطبع والمشاعر، أفرأيت حزنك على ما يضر وفرحك بما يسر؟ أرأيت تركك إذا سخطت وأخذك إذا رضيت؟ أرأيت عصمك إذا أُطعت وعزمك إذا عُصيت؟ أشيء من هذا تقدر على كتابة وصولك إياه من أول سبب إلى آخر نتيجة في خطوات رياضية؟ فما بالك إذن بالذلة والإباء، بالضحك والبكاء، بالنعيم وبالشقاء؟ أشيء من هذا كان ليكون لو كنت حجرًا أصمًا متبعًا لخطوات؟ وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عندما سُئل عن الإثم: (الإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ) فلم يخبره عليه السلام بخطوات خوارزمية تُتّبع ليفسر الإثم، بل تركه لفطرته النقية ولقلبه السليم.
ويدخل في الذي نعرفه بإعمال العقل وإطالة النظر: الفصل بين العلم الطبيعي الحقيقي والزائف، فإنّ من أعضل المعضلات وأشكل المشكلات إدخال نظرية في الطبيعيات أو إخراجها منه. وهذه المعضلة تخالف الفلاسفة فيها حتى لا اتفاق لهم، فقيل يخلص العلم من الزيف بأن نقدر على دحضه وقيل بل العلم هو ما جمع من الأدلة ما يثبته، حتى قال قائلهم بل المعضلة كلها وهم ولزم إطراح مهمة البحث عن معيار. تقرأ هذا في خضمّ مجادلات فلاسفة العلم ومناظراتهم حتى تكاد تقول إذن لا سبيل لأي شيء أن يكون علمًا، ثم تخرج من قوقعة الفلاسفة فتجد أهل الطبيعيات بمختلف منازلهم قد اتفقوا على نظريات هي من صميم العلم واتفقوا في أخرى أنها زيف ليست من العلم في شيء. وما اتفقوا لوجود معيار ولا خطوات خوارزمية اتبعوها بل اهتدوا إليها من تلقاء عقولهم ووجدانهم في عالمٍ أُحكمت قوانينه من لدن حكيم خبير.
وإصرار أصحاب حوسبة العقل على أنّ كل العمليات في الوجود بما فيها عقول البشر هي عمليات حسوبة خوارزمية يشبه صنيع أهل اليونان الأوائل الذين زعموا أن كل شيء مرقّم في الوجود لابد وأن يكون ضمن الأعداد الكسرية، ولكنهم وجدوا أن كثيرًا من الأرقام والموجودات لا سبيل لضمها لهذه الأعداد، منها جذر العدد 2. ولو أنهم ركبوا رؤوسهم واستغشوا ثيابهم كما يفعل أصحابنا اليوم لما وصلنا ما وصلناه اليوم في العلوم. والزعم بأن كل شيء يتّبع خطوات وخوارزميات كالقول بأن الحجر إذا قُذف لأعلى فإنه يستعمل قوانين المقذوفات ليحسب سرعته ووجهته، أو كالقول بأن الكواكب قبل أن تتحرك فإنها تحل معادلات تفاضلية لتعلم مدارها. وصفنا لسلوك جسم بمعادلات قوانين الفيزياء لا يقتضي استعمال ذلك الجسم لهذه القوانين.
لو أردنا الإتيان بشيء جامع يجمع كل ما سبق لقلنا إن ما عرفه البشر فطرة في نفوسهم وتمحيصًا بوجدانهم يستحيل تحويله لخطوات خوارزمية وعليه يستحيل على الآلة فعله ومن باب أولى غلبة البشر فيه. وما أنطُلوجيا الخوارزميات بشبيهة بأنطلوجيا البشر بل هي أفقر وأنقص إذ إنها محدودة بحدود الخوارزميات وحدود مقدرة البشر على كتابته. وقد استدل رولي ومن معه بقيود أنطلوجيا الخوارزميات على استحالة غلبتها للبشر مطلقًا [7].
قد تسأل وأنت تقرأ: ولكن من الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم ما يخرج لك أشياءً جميلة ولو طلبته القبيح لفعل، بل ويرسم لك رسومًا أجمل مما يرسمه البشر ويكتب لك قصصًا تفيض مشاعرًا، بل ويغضب إن استغضب، فالجواب عليه من وجوه: أولًا لا ينفي نقصان الخوارزميات قدرتها على الإتيان بشيء من خصائص البشر كالمشاعر مطلقًا، بل قد يكون منها ما يشبه ذلك إن برمجناها هكذا، لكن هي ناقصة أبدًا من جهتين: أنها تبعٌ لما عُلمت عليه، وأنها إن فعلت فلم تفعله لطبيعة منها وحاجة كما نفعل نحن، بل لأنه موجود في خطواتها المُتضمنة أنّ هذا إن صار فهذا جوابه. بمعنى أنّ هذا الذي تفعله الآلة كأن نجمع لها مليارات الحالات فنأتي على كل حالة منها ونخبرها كيف تشعر إن صارت الحالة. فعلها هذا يوحي للناس أنها عاقلة متطبعة بطباع كالبشر، والحقيقة أنها متبعة لخطوات وافقت ما صار أمامها، ليس تطبعًا طبيعيًا بوعيٍ وإدراك كما يفعل البشر. والوجه الثاني سأذكره في الفصل القادم.
4) نقد الذكاء الاصطناعي الحالي
أكبر مذهبين في تاريخ الذكاء الاصطناعي وحاضره مذهبا الرمزية Symbolism والربطية Connectionism. الرمزيون هم أول المذاهب وهم الذين بدؤوا الذكاء الاصطناعي أول مرة. أصحاب المذهب يقولون إنّ ذكاء البشر هو في استعمالهم لآلة المنطق والتزامهم بقواعد منطقية وترميزهم المعلومات في عقولهم منطقيًا. والمذهب ظهر نتيجة آلاف السنين من دراسة المنطق من أيام اليونان الأوائل وحتى يوم الناس هذا. وكان كبار علماء الحاسب والذكاء الاصطناعي ممن يقول بهذا، ومنهم جون مكارثي John McCarthy ومارفن منسكي Marvin Minsky وهربرت سايمنHerbert Simon الفائز بجائزتي نوبل وتورنج، وغيرهم. ومن أشهر أصول المذهب قولهم بأن أي نظام متجسد يعمل بالرموز (كالحواسيب) عنده كل الشروط الضرورية والكافية ليخرج منه ذكاءٌ كذكاء البشر، وسموها بفرضية مجسدات الرموز Physical Symbol System Hypothesis. وقد يغلو أصحابه فيحولون هذا الأصل من "كل الحواسيب عندها ما يجعلها ذكية" إلى "يمتنع الذكاء إلا للحواسيب" ولا يقصدون به أن البشر غير أذكياء بل يقولون إنّ البشر ضربٌ من ضروب الحواسيب؛ وهذا القول الغالي هو أساس حوسبة العقل Computational Theory of Mind وقد قال بهذا القول جمع كبير من العلماء والفلاسفة وهو القول المتبع في هذا الزمان. وما هذا آوان نقد حوسبة العقل، لعل الله يكتب لي نقده في مقالة في قابل الزمان.
أما الربطية فأول أمرهم كانت أبحاث علماء الأحياء في صياغة معادلات رياضية تصف خلايا الأعصاب، فخرج بعدها أصحاب المذهب يخطؤون الرمزيين ويقولون بل الطريق لصنع ذكاء كالبشر أن نتبع خلايا الأعصاب فإن كان البشر خرجت عقولهم من هذه الخلايا؛ فأي ذكاء مثلهم لابد أن يخرج من مثل ما خرجوا منه. وقد كان المذهب مرمى لسهام الرمزيين لقلة منجزاتهم وضعفها إن قورنت بأصحاب الرمزية، بل وقد انتقدوهم في أصل مذهبهم وقالوا بقصور خلايا الأعصاب الرياضية في إخراج مبادئ عقلية أساسية للذكاء، منها نقدهم في استحالة الخلايا من ذات الطبقة الواحدة من إنتاج بوابات المنطق كالإقصاء XOR، ولكن المذهب كبر وأخذ بالانتشار بعد إضافات وتطويرات كثيرة كانت ضرورية له، مثل التعلم بالانتشار العكسي Backpropagation وتعميق الطبقات وتطور خوارزميات ومعماريات تعلم الآلة واستعمال كروت الشاشة للحوسبة وأهمها كثرة البيانات لأسباب منها انتشار الإنترنت.
مختصر المذهبين أنّ الرمزيين يبرمجون الآلة ويعطونها كل الأوامر والمعلومات التي تحتاجها بينما الربطية فيعطون الآلة بيانات شتى ثم تتعلم الآلة منها لتستخرج قوانينها. وما هذه كل المذاهب للذكاء الاصطناعي وإن كانت أكبرها. جمع صاحب كتاب أم الخوارزميات The Master Algorithm المذاهب في خمسة: الرمزية والربطية والتطورية والتشبيهية والبيزية (نسبة إلى أدوات الإحصاء البيزي).
عقل الإنسان له طرائق قددًا في التفكير والتدليل، ومن أشهر الأقوال إنّ العقل يستدل بثلاث طرق: الاستنتاج Deduction والاستقراء Induction والاستنباط Abduction. الاستنتاج هو تطبيق حالة على قاعدة لتحصل على نتيجة:
القاعدة: كل الناس يرتوون بالماء.
الحالة: عبدالله من الناس.
النتيجة: عبدالله يرتوي بالماء.
فالنتيجة هنا تظهر بداهة من تطبيق القاعدة على الحالة. وفي الاستنتاج ميزة وعيب، الميزة أن النتيجة دائمًا صحيحة ماكانت المدخلات صحيحة. وهذا هو لب الذكاء الاصطناعي على مذهب الرمزيين، فمن تتبع برامج الذكاء الاصطناعي في القرن الماضي وجدها على هذا الحال. منها مثلاً مُنظّر المنطق Logic Theorist المبرمج لإثبات وحل مسائل رياضية ومنطقية، والمحادث ELIZA الذي كان يحادث الناس وخدع كثير منهم فظنوه بشرًا. أما عيب الاستنتاج أنه لا يأتي بمعلومة جديدة ولا يزيد في معرفة صاحبه لأنه تطبيق قاعدة على حالة، كيف تعلم القاعدة ابتداء منه؟ وعليه فالتدليل به غير مرن فلا بد من كم كبير من المقدمات والقواعد، وأي شيء لم تعطي الآلة قاعدته لها فلن تعلمه.
أما الاستقراء فهو الانتقال من أفراد الحالات إلى قاعدة عامة تصدق فيهم:
الحالة: الشمس في كل تاريخنا المشهود طلعت من المشرق.
القاعدة: الشمس دائمًا أول طلوعها من المشرق، وعليه فغدًا هي طالعة من المشرق.
فبالاستقراء تصنع قواعدًا، وميزته عكس عيب الاستنتاج، وعيبه عكس ميزته، فميزته أنه ينتج معارفًا، وكثير من الطبيعيات والتطبيقيات تستعمل الاستقراء، وعيبه أنه لا ضمانة على صحة القاعدة المنتجة. فحتى هذا المثال نعلم نقلًا خطأه، فإن في علم الله أن سيأتي يوم تقلب فيه نواميس الكون وتطلع الشمس حينها من مغربها. ومثال آخر لو قلنا إن شهور الشتاء في السنوات الماضية كانت مطيرة، ما الضامن في أن شتاء السنة القادمة مطير؟ ولا ينفي هذا أن بالاستقراء نستخلص علومًا. وكما كان الاستنتاج أصل ذكاء آلات الرمزيين فإن الاستقراء هو طريقة الربطيين في مذهبهم؛ فكل خوارزميات تعلم الآلة اليوم لها من الاستقراء نصيب بل لا تقوم إلا به؛ لذلك تسمع بنقد هلوسة نماذج اللغات الضخمة وأنها تأتيك بمعلومات خاطئة بعبارات واثقة، فهذا من انعدام التأكد بالاستنتاج والاعتماد على الاحصاء والاستقراء.
وأما الاستنباط فهو الإتيان بأفضل تفسير لفهم مشاهدات ناقصة، لذلك من أسمائه التفسير بأقرب تبرير Inference to the Best Explanation. ومثاله:
المشاهدة: الشوارع عليها أثر ماء.
التفسير: كمية الماء كبيرة لا تأتي إلا من مطر.
النتيجة: هطلت أمطار قريبًا.
بالاستنباط يستدل الإنسان بمعلومات ناقصة ومعلومات من فهمه عن العالم ويوصل بينهم ليفسّر شيئًا ليس ظاهرًا في آحاد المعلومات. ويعيبه ما يعيب الاستقراء فلا ضامن في المثال أن السماء أمطرت، لعله صهريج ماء انفجر أو جاء من غسل الشوارع فأسرف؛ لذلك يرى من الفلاسفة أن الاستنباط هو أصل طريق الطبيعيات عند رصد المشاهدات وكتابة القوانين والمعادلات. والاستنباط فيه إعمال للعقل كبير وترجيح بين الاحتمالات واختيار للتفسيرات وهو بعيد الشبه عن الاستنتاج والاستقراء. ولا توجد اليوم آلات تستعمل الاستنباط في التدليل وفهم العالم، وهذا قول صاحب كتاب خرافة الذكاء الاصطناعي ونقده للذكاء الاصطناعي وأنه لن يصل لشيء من عقل البشر ما دام لم يُبرمج على الاستنباط بل إن الاستنباط لا يُدرى اليوم كيف يُعلّم للآلة ولا ما الذي نحتاجه لنعلمها إياه.
العقل أعقد من أن يُختزل في نموذج واحد للتفكير كنموذج الاستدلال بالاستنتاج والاستقراء والاستنباط. ومن النماذج ما جاء به يوديا بيرل Judea Pearl في تراتبية السببية Causal Hierarchy [21]. فيقول بأن تفكير الإنسان متبع للسببيبة ومراتبها، وقد سماها ثلاثًا: الاشتراك Association والتدخل Intervention والاستقدار Counterfactual. وكل مرتبة تستعمل المرتبة السابقة في عملها. فالاشتراك هو أقل المراتب لأن السببية لا تظهر فيها وهو نموذج معتمد على البيانات فقط، مثاله: من يشتري فرشاة أسنان فسيشتري معها خيط أسنان، وهذا اشتراك لفعل في فعل آخر نجمعه بالبيانات وتحليلها. والمرتبة تشمل جميع آلات الذكاء الاصطناعي اليوم، أما المراتب العليا فلا سبيل للآلة الاحصائية بها لأنها أعلى من مجرد البيانات. المرتبة الثانية هي التدخل، وهو تدخل بالعقل لا بالفعل، ومثاله أن تقلب عقلك في كيف سيتحرك السوق لو ارتفعت الأسعار للضعف، وترى هنا بجلاء قلة البيانات لكنها قد تُستعمل باستدعاء المرتبة الأولى. أما المرتبة الأخيرة فهي الاستقدار أي العودة لفعل قد مضى فتفكر كيف كان سيكون قدره لو فعلت فعلًا آخر بدلًا عنه. ومثال الاستقدار أن تفكر كيف كان سيكون حال الدنيا لو لم يولد من تحب، أو ماذا لو لم يحرق المغول مكتبات بغداد. والتراتب لا تُصعد بل ينزل منها، ومن عنده الاستقدار فيستطيع استعمال كل المراتب السابقة، أما من اكتفى بالرتبة الأولى كالآلات فلا سبيل له لاستعمال ما بعدها، إلا أن يوديا في لقاء قريب معه بعد انتشار برامج اللغات الضخمة قال إن المراتب العليا قد تستطيعها الآلة من المرتبة الأولى لأنها تتعلم على نصوص البشر وهم عندهم هذه المراتب [28]، لذلك قد تُظهر الآلة شيئًا من المراتب العليا باستعمال البيانات، لكنه ليس كما عند البشر لأنها ما عندها نماذج تفهم العالم سببيًا بل هو كالمحاكاة. بقي أن نقول إنّ هذه المراتب مجموعة في قول العلماء قديمًا: الله يعلم ما كان (الاشتراك)، وما سيكون (التدخل)، وما لم يكن لو كان كيف سيكون (الاستقدار). ولله المثل الأعلى والعلم الأكمل، فعلمنا معشر البشر علم ناقص ضعيف احتمالي، وعلم الله كامل قاطع لا شك فيه ولا احتمال وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، هو خالق الخلائق ومسبب الأسباب وعالم العوالم سبحانه وتعالى.
ترجمات المصطلح الإنجليزي Counterfactual ترجمات لفظية لا أراها تعطي العربية حقها ولا الكلمة معناها في هذا السياق. من ذلك: مخالفة الواقع، وحقيقة مضادة، وضد واقعي.
فرأيت أن الاستقدار أنسب، وهو على وزن استفعال الذي يأتي بمعنى طلب الشيء كالاستغفار والاستفسار، فيكون المعنى أنك تعود إلى الماضي فتطلب قدر شيء لم يكن كيف سيكون. واستلهمته من قول عمر بن الخطاب لأبي عبيدة رضي الله عنهما وقت الطاعون (نفِرُّ مِن قدَرِ اللهِ إلى قدَرِ اللهِ) فلكل فعل قدر وكل قدر في علم الله.
نعود للربطيين لأنهم هم غالب أهل الذكاء الاصطناعي في عصرنا؛ فأي ذكاء اصطناعي تسمع به اليوم (مثل شات جي بي تي ChatGPT للمحادثات ومدجيرني Midjourney للرسومات وغيرهما) قد اتبع طريقتهم في تعليم الآلة وأهمها التعلم العميق Deep Learning. والتعلم العميق باختصار مخل: عملية إحصائية تعطيها بيانات للتدريب ضخمة فتخرج لك نموذجًا بعوامل جمّة، معايرة هذه العوامل لتوافق البيانات المدخلة هو الذي يسمونه التعلم، وفي العموم تزداد قدرة الآلة بزيادة عدد العوامل، وقد تصل إلى الترليونات في النماذج الحديثة. ونقد التعلم العميق كثير جدًا بل هو معروف عن أي مشتغل به وتجد فصولًا في كتب تعليمه مبوّبة بقصور الطريقة.، من ذلك مثلًا أن فرنسواه شوليه François Chollet عقد قسمًا في كتابه أسماه "قصور التعلم العميق" وذكر فيما ذكر: "وكل ما لا يتم إلا بإعمال العقل، كالبرمجة والطبيعيات، وبُعد التدبير وتقليب البيانات ليس للتعلم العميق سبيل إليه ولو أعطيته ما أعطيته من بيانات" [29].
ونقد التعلم العميق له طرائق شتى فمنهم من ينتقد البيانات ومنهم من ينتقد الخوارزميات وسبلها ومنهم من ينتقد تحويل البيانات إلى أرقام ليعمل بها ومنهم من يبحث في حدود ما يمكن للمعادلات وصفه. وغالب هذه الانتقادات شديدة التقعر في الرياضيات ولو عرضتها لخالفت مرادي في جمع ما يفهمه عامة الناس، فمن أراد الاستزادة في هذا فليبدأ بالفصل الثامن من [30]. ولكني سأذكر لك بعض ما يسهل ذكره:
من الافتراضات عند أهل تعليم الآلة بالبيانات أنّ كل ما يقدر البشر على بسط أيديهم عليه من بيانات مجموعة أو لم تجمع بعد؛ معبّر عن أي ظاهرة يراد تعليمها للآلة، أهمها التعقل والذكاء. وهذا الافتراض خاطئ من أوجه كثيرة أولها ما ذكرته في فصل نقد البيانات وبسطت القول فيه، وثانيها أن من الحالات ما هو شديد الندرة ولكن أصنافه كثيرة وأن بعضها منتشر معروف ولكن أصنافه قليلة وهو الذي يُقال عنه توزيع الذيل الطويل Long tail distribution [31]. ولهذا أمثلة كثيرة لا تُحصر، منها قيادة السيارة فغالب قيادتك شيء تلقائي لا تفكر فيه، ولكن تمر عليك حالات كثيرة تستفزك فتجعل كل تركيزك فيها كأن يقترب طفل من حدود الطريق، أو حادث أغلق نصف المسار، أو مطر شديد أغرق المكان، أو رجل مرورٍ يشير بيديه أن ارجعوا، أو جهة انتهى منها الطريق المعبّد ولا تملك إلا أن تقود فوق الحصى، كل هذه الحالات نادرة لكنها معقولة وأصنافها كثيرة لا يجمعها جامع، فالآلة المحتاجة للآلاف الأمثلة لن تجد شيء من ضالتها في التوزيعات طويلة الذيل.
ومن الوجوه أن غالب الظواهر ليست مسرانية non-ergodic [30]بمعنى أنّ إحصائها بأدوات الإحصاء في أي زمان ومكان لن يكون إلا بتفريطك في معلومات عنها. والكون كله وما فيه من آحاد الأحداث ليس بمسرانيّ فكل لحظة في الزمان تُخرج لك شيئًا ما وُجد لا في زمان قبله ولا مكان، بل البشر بأفعالهم يحدثون أمورًا يستحيل تتبعها لو جُرد كل فعل من أول يوم خلق الله فيه الكون إلى يومنا هذا، فأخذك للمتوسطات الحسابية من لحظة الوجود المادي الأول إلى قبل خلق البشر لن ينفعك لو أردت توقع وحساب أثر البشر على الكون، وشاهِدُ هذا من كتاب الله قصة خلق آدم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالت الملائكة متنبأة بما سيكون عليه أمر هذا المخلوق بما عندها من علم سابق {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقال الله تعالى العالم بكل شيء {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. فانتفاء المسرانية عن الكون لا ينفي دقة شيء من التوقعات، فما قالته الملائكة وقع حقًا ولكنها عميت عن أمورٍ كتبها الله وعلمها كإرسال الرسل ومنهم محمد ﷺ خير خلق الله كلهم جميعًا، المنزّلُ عليه القرآن هدى للناس وفرقانًا. فمن كانت عنده بيانات الكون كلها، من غير النقل، ما كان ليعلم أن ستأتي لحظة في الزمان يُولد فيها الهدى فتشع الكائنات ضياءً ويتبسم فم الزمان ثناءً، صلى الله على من أرسله الله للناس بشيرًا ونذيرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ومن افتراضاتهم أن النموذج الرياضي المخرج من تعليم الآلة (وهو معادلة طويلة بعوامل قد تصل للمليارات كما ذكرت) كافٍ لنمذجة أي ظاهرة في هذه الدنيا، ولو كانت عقول البشر. وهذا الافتراض هو الذي حمل يوبست لاندقريبي Jobst Landgrebe وباري سمث Barry Smith على كتابة كتابهما "لمَ لن تحكم الآلات العالم Why Machines Will Never Rule the World" [30]. وحجتهما هي الآتي:
1- لمضاهاة عقل البشر لابد من تقنية ذكية كذكائهم أو أشد
2- لصنع التقنية المطلوبة ما عندنا إلا محاكاة عقول البشر (هذا فعل الربطيين)
3- محاكاة البشر لن تكون إلا بنموذج رياضي يقبل مدخلات ويخرج توقعات وإدراكًا
4- يستحيل صياغة الأنظمة المتراكبة بالرياضيات
5- عقل البشر نظام متراكب
6- عليه، يستحيل الإتيان بتقنية تضاهي البشر عقلًا وذكاءً
ثم أخذوا أزيد من 300 صفحة في كتابهم يبرهنون ويستدلون على هذه المستحيلات وينقدون أفعال هؤلاء الأقوام.
ختامًا سأوجه سهام النقد لنماذج اللغات الضخمة (مثل شات جي بي تي ChatGPT) وإن كنت لا أحب نقد أفراد البرامج، إلا أنها أعظم ما صنعه البشر من ذكاء اصطناعي وهي التي حملت أقوامًا كثرًا على الزعم بغلبة الآلة للبشر قريبًا. وإن كان من عقلاء العلماء من صار يقول بأنها أخرت تقدم البشر في صناعة ذكاء أذكى لانكباب الباحثين والعلماء عليها لحاقًا بالهبّة وطلبًا للقربى. وليست هذه الانتقادات جامعة وليست كلها مستحيلة الحل بل هي أقرب للصعوبات التي إن زادت قصمت ظهرها.
تُولّد هذه النماذج النصوص بتوقع الكلمة القادمة في الجملة ثم إذا كتبتها توقعت الكلمة التي تليها وهكذا حتى تخرج لك نصًا لا فرق بينه وبين نصوص البشر إلا لمن تأمل. والمعمارية التي أخرجت هذه النماذج ظهرت قبل سبع سنين واسمها المتحولة Transformer. فأول حدود هذه النماذج هو حدود المتحولات لأنها قائمة بها، من ذلك بحث نُشر قبل أشهر [32] سعى فيه الباحثون لتقدير قدرة المتحولات في التعميم خارج البيانات المتعلم عليها، فوجدوا المتحولات ضعيفة في استنتاج أشياء من ضرب بيانات التعلم ببعضها، ووجدوها تنهار إن طلب منها تحليل شيء بعيد جدًا عما تعلمت عليه. وآخرون أثبتوا هذا الضعف في التعميم [33]، بل وعندما أعطوها مسائل وألغاز مركبة لا تحل إلا بالتفكيك ثم التحليل بعد الفهم وجدوها تفككها ولكنها تبحث عن أنماط بلا فهم ولا تحليل، وأثبتوا نظريًا انتشار الأخطاء في المسائل المركبة ما يجعلها تتراكم فتستحيل الحل، وهذا يظهر جليًا إن سألت أي برنامجًا منهم أن يضرب لك عددين كبيرين. ومن الباحثين من وجد النماذج لا تتعلم من أخطائها لأنها لا تعلم أنها أخطأت بل وإن طُلب منها تصحيح أخطائها جاءت بنتائج أشد سوءًا [34]. وعندما اُختبرت في نفس السؤال مرة من بيانات مشهورة وأخرى مغمورة وجدوا أخطاءها أكثر بكثير عندما تُسأل عن شيء نادر، حتى عمليات الحساب أخطاءها أكثر في الأرقام النادرة [35]. ولأنها نماذج عملها الاستقراء، فلمّا اختبروها في الاستنتاج بمسائل سهلة (إذا كان أ=ب فهل ب=أ؟) أظهرت أخطاءً في بدهيات كثيرة [36]. ومن قصورها أنها تحتاج كمية بيانات مضاعفة لزيادة دقتها ولو قليلًا [37] فلو أريتها مثلًا ألف شجرة فكانت دقتها لنقل 70% لاحتاجت إلى مليون شجرة لتزيد ل90%، والمعضلة هنا أنّه ليس بين أيدينا بيانات هائلة لكل شيء حتى تتعلمه هذه النماذج لتزيد دقتها.
ويعيدنا نقد نماذج اللغة إلى أن البيانات لن تكفي وحدها للتعقل، ونحن البشر نولد عاقلين وننمو عاقلين ونزداد تعقلًا والبيانات التي أحطنا بها ما تصل معشار معشار ما رأته أضعف هذه النماذج. وتجد هذه النماذج تدّعي علمًا بشيء لا تدركه ولا ينبغي لها إدراكه، مثلًا لو سألتها كيف يكتب الناس خطأً كلمة "ضابط" لقالت لك يكتبونها "ظابط" وإن سألتها عن السبب لقالت قرب الحرفين في النطق صوتًا ومخرجًا، تقول هذا وهي لم تسمع صوتًا عند تعلمها ولا تعلم وقعه، بل كل ما تعلمته نصوص صامتة وإنما أدركت هذا لانتشاره في بياناتها ليس تعقلًا للسبب وفهمًا له كما نفعل. والذي ذكرت إنما هو قليل من كثير امتلأت به مجلات الأبحاث في الشهور الماضيات. وكل هذا يظهر لك أن هذه النماذج لا تفهم ولا تعقل ولا تدرك كما يفعل البشر، إنما هي برامج قوية الحفظ تعلمت على ترليونات البيانات فخدعت الناس أنها تعقل. وهي متعلمة على أصناف متقطعة من البيانات كالنصوص أو الصوتيات أو المرئيات أما نحن فنختلط بالعالم من حولنا ونتفاعل معه ويتفاعل معنا باتصال غير منقطع. وهي انقطع علمها عند انتهاء برمجتها ونحن لا ينقطع تعلمنا إلا بانقطاع حياتنا.
5) النقد الشرعي
ونأتي الآن لخير ما يُستدل به ويُحاجَج، وهو قول الشرع في مسألة غلبة الآلة للبشر في سائر عقولهم، لكن قبل أن نبيّن وجه الاستحالة مستدلين بالقرآن والسنة، لابد من الرد على شبهة متوقعة في مثل هذا، فقد يقول قائل:
تنزلنا لك بما سبق ذكره في الفصول السابقة لأن فيه رأي العلم والعلماء، وإن لم يكن كذلك فمنه رأي يراه الواحد منّا في سائر حياته، لكن لماذا الخلط بين العلم والدين؟ اترك لكل شيء مجاله فالعلم مجاله هذه الأسئلة الطبيعية المشاهدة أما الدين مجاله الغيب، وخلط الدين هنا مضر بالعلم ومضر بالدين أيضًا.
أمّا ردي، فها هو ذا باختصار حتى يكتب الله إفراده في مقالة مفصّلة:
1- من قال إن مسألة غلبة الآلة البشر مسألة علمية؟ بل هي مسألة فيها من الغيب والخرص بغير علم ما فيها، فمذاهب الفلاسفة في الفصل بين العلم الحقيقي والزائف كثيرة كما ذكرت في فصل نقد الخوارزميات، ولكن سأذكر اثنين من أكثرها اتباعًا وأبين لك أن المسألة التي بين أيدينا هي خارجة عن العلوم الحقة وداخلة في الزيف:
·الإثبات: هذا المعيار يقول إنّ المسألة تكون علمًا إذا ثبتت بالتجربة والبراهين. انظر لمسألتنا هذه، أتدخل في هذا المعيار؟ هي مسألة في مستقبل الأيام فلا سبيل لنا أن نخضعها لتجربة واستدلال، وحتى ما بين أيدينا من ذكاء اصطناعي لا يساوي شيئًا أمام الآلات العاقلة الغالبة التي يدّعونها، فأي تجربة عليها لا تنطبق على هذه الآلات القادمة. فما دامت المسألة لا تثبت ولا سبيل لإثباتها فهي مسألةُ زيفٍ ليست من العلم في شيء.
·قابلية الدحض: هذا المعيار يقول إنّ المسألة لا تكون علمًا إلا إذا كانت قابلة للدحض، أي أنك تقدر على إجراء تجربة تدحض فيها النظرية، وأي شيء تستطيع عمله لمسألتنا هذه حتى تدحضها؟ بل هي لا تثبت ولا تُدحض حتى تمر الأعوام التي جزموا أن الآلة ستغلب البشر فيها. وهذا شبيه، بل مطابق لكلام من قال من أصحاب الديانات الغابرة أن البشر سيُفنون عن بكرة أبيهم في سنة حددها كبراؤهم، كقول من قال إنّ حضارة المايا تنبأت بهلاك البشر في عام 2012.
وعليه، فهذا القول ليس علمًا بل هو دينٌ باطل تلبس بلبوس العلم حتى يتبعه من فتن بالعلم، وقد صار.
2- أما الثانية وهي أشدها: الفصل بين العلم والدين. وهذا لَعمري قول شديد البطلان، ناقض للإيمان، مكذّب للقرآن، بل الدين علم، بل هو تمام العلم، بل العلم بالله مطلب كل علم، فكيف يُفصل بين العلم والعلم؟ وإن من أعظم أخطاء التراجمة ترجمتهم لScience بالعلم؛ وذلك أن العلم في العربية معناه واسعٌ جدًا ويشمل معانٍ كثيرة، أهمها: إدراك الشيء على ما هو عليه، ويدخل في ذلك بالضرورة الدين. أما كثرة ترجمة Science بالعلم فقد جعلت العلم التجريبي يستأثر بالعلم كله وحده حتى أخرج كل العلوم من حيّز المعرفة المعتبرة. لذلك، Science هو "علم" وصفًا، لكنه ليس "العلم" حكرًا. بل العلوم كثيرةٌ أصنافها، متنوعة أغراضها. ثم ما نصنع بالقرآن إن اتبعنا هذا القول وقد امتلأ بآيات النظر في الطبيعة ووصفها. انظر مثلًا قوله تعالى في سورة الرعد {ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّۭ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۚ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ٢ وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِىَ وَأَنْهَـٰرًۭا ۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ۖ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ ٣ وَفِى ٱلْأَرْضِ قِطَعٌۭ مُّتَجَـٰوِرَٰتٌۭ وَجَنَّـٰتٌۭ مِّنْ أَعْنَـٰبٍۢ وَزَرْعٌۭ وَنَخِيلٌۭ صِنْوَانٌۭ وَغَيْرُ صِنْوَانٍۢ يُسْقَىٰ بِمَآءٍۢ وَٰحِدٍۢ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَـٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ ٤} ولو جردت لك الآيات والأحاديث المتكلمة في أمر طبيعة المادة (العلوم الطبيعية) وسلوك البشر (العلوم الاجتماعية) لما انتهيت. بل حتى الاستحالات (كأمر مسألتنا هذه) لها نصيبها في القرآن والسنة، فمن المقطوع به استحالة خلود البشر وإحيائهم كقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍۢ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ ۖ أَفَإِي۟ن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ} وقوله عليه السلام (تداووا عباد الله فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم) صحيح ابن ماجه. والقول في هذا يطول جدًا لعل الله يسهل عليّ بسطه في موضع آخر.
فبعد أن نقضنا الشبهة فهذا أوان بسط الحُجّة في استحالة غلبة الآلة شرعًا، وسأذكر لك حجتين:
· الحجة الأولى: أن في الإنسان شيء زائد على مادة الجسد هو الذي أعطاه عقله:
مذاهب الناس في أصل مادة العقل كثيرة ومختلفة طرائقها، وهم على فئتين ثم ينقسمون: الواحديون والثنائيون. الواحديون يقولون إن العقل شيء مادي لا غيب فيه ومنهم من يقول بالواحدية العقلية، والثنائيون يقولون بوجود شيء زائد على مادة الجسد وهذا الشيء له أسامٍ كثيرة منها الروح والنفس والنسمة وقد يفرق بعضهم بينها، ومنهم من يقول بأن الزائد عرض مادي. وتفصيل هذه المذاهب شيء يطول جدًا بل إنك ترى في كل نوع مذاهبًا ولكل مذهبٍ مذاهب أُخَر، كيف لا يكون هذا والعقل أعقد شيء في الوجود كله فلو لم يختلف الناس فيه لما اختلفوا في شيء بعده أبدًا. إلا أن المقطوع به دينًا والنازل به قرآنًا وسنةً وما أجمع به عقلاء الناس قبل إهلاك الفلاسفة لهم والمعلوم في نفوس الناس ضرورة أن في جسد الإنسان شيء زائد على مادته.
فالإنسان بلا هذه الروح جمادٌ لا حياة فيه ولا شعور ولا إرادة، وشاهد لهذا أن الميت لا يُعذّب في قبره أو يُنعّم إلا بعد أن ترجع الروح إلى جسده بعد أن أخذتها الملائكة منه وصعدت بها إلى السماء كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (...فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول...) فلو كان الشعور بالألم والنعيم يكفيه الجسد أو أن الكلام يكون بلا روحٍ لما رُدت روحه. وآدم أول حركة له أول ما خُلق كانت عطسة بعد أن دخلت الروح من رأسه (لما نُفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس فقال: الحمد لله رب العالمين فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله) كما في صحيح ابن حبان. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد على من سلم عليه من المسلمين، ولا يكون ذلك إلا برد روحه إلى جسده كما في سنن أبي داود (ما من أحد يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام) فلو كانت الروح شيئًا زائدًا لما رُدّت. حتى تعارف الناس وتآلفهم وتناكرهم للأرواح فيه أثر (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) رواه مسلم. والحق أن تفاصيل عمل الروح نقلًا في الجسد قليلة، وإن تنزّلنا وقلنا إن عمل الروح هو فقط ما ذكرنا وأن الباقي عمل الدماغ والجسد؛ فهذا كافٍ بأن يكون الجسد ناقصٌ بدون الروح. وعليه فحتى لو قلنا بإمكانية صناعة جسدٍ مطابق لجسد الإنسان وذكاءً اصطناعيًا يشابه كل ذكائه، فلا زالت الاستحالة باقية بأن تكون هذه الآلة مطابقة للإنسان لأنه يزيد عليها بهذه الروح. فيستحيل عليها إذن أن تكون حيةً وتشعر بالنعيم والعذاب كما يشعر الإنسان وأن تتآلف وتتخالف وغيرها من الصفات المذكورة شرعًا. ولا يعني هذا استحالة المحاكاة (كما هو عمل الآلة اليوم) بل هو استحالة المطابقة.
ومن عجيب نقد الذكاء الاصطناعي أن تورنج قبل 70 سنة في أشهر أوراقه في تعقل الآلات ذكر نقودات للناس في زمانه [38]. والعجيب أن أول شيء ذكره كانت حجة الروح، ولا تكاد تجد أحدًا في زماننا هذ يستشهد بالروح إلا بقية من أهل الكتاب وقليلٌ من المسلمين؛ وما هذا إلا لانتشار الفكر المادي وعلمنة العلوم عند كثير من المتدينين فيؤوّلون ما لا يقبله المجتمع العلمي أو ينكرونه ليبتغوا عندهم الوسيلة.
فإن قيل: وما هذه الروح وكيف ندرسها ونعرف تفاصيلها؟ وكيف تمتزج بالدماغ وأين مواضع تأثيرها في الجسد؟ وما وظائف الروح وكيف نفصل بينها وبين الجسد من دماغ وأعصاب وغيرها؟
قلت: قد سُئل هذا من هو خيرٌ مني فلم يجب حتى أوحى الله إليه: {وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا} ولو تتبعت كل آيات القرآن في سؤال الناس لرسول الله لرأيت الجواب حاضرًا مفصلًا بعدها إلا في أمرين: الروح والساعة، وهما مما استأثر الله بعلمه. وليس هذا الذي قلت منعٌ للناس من النظر في أمر الدماغ والأعصاب ووظائفها بل هي ذات نفع كبير وفتح من الله عظيم. فاستحالة البحث في أمر الروح والأمر بالبحث في الجسد، كاستحالة البحث في أمر الملائكة الموكّلة بالمطر والنبات والأمر بالبحث في المطر واستنزاله والنبات واستزراعه. ومن الملاحظ اللطيفة في الآية أن الله تعالى قال {وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا} ولم يقل "وما تعلمون إلا قليلًا"، بينما في آية خروج الإنسان إلى الدنيا بلا علم ولا معلومات قال {وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا} ولم يقل "وما أوتيتم من العلم شيئًا". وعليه فالمعنى في آية الروح: ما أوتيتم من أدوات العلم التي تعلمون بها الأشياء إلا أدوات قليلة بها تعلمون ما أتاح الله لكم. والمعنى في آية الخروج: لا تعلمون شيئًا من صنوف العلوم التي عندكم أدواتها، ولكن آتاكم أدوات بها تأخذون العلوم والمعارف. وفي المختصر، فإن قلة العلم التي ذكرها الله في آية الروح هي قلة أبدية للجنس الآدمي ليس لضعف معارفهم في زمن ما، ولكن لأن الله لم يؤتهم من أدوات العلم التي تمكنهم من معرفة الروح وأسرارها والبحث فيها.
· الحجة الثانية: أن أعظم شيء يخرج للناس وأشدها فتنة هو المسيح الدجال:
الأقوام الذين ذكرتهم في مقدمة المقالة زعموا أن الآلات بعد أن تغلب البشر عقولًا ستصل للحظة في الزمان تبرمج نفسها بنفسها فتزيد ذكاءً ثم تعدّل ما نقص فتزيد تعقلًا، حتى تتفجّر ذكاءً فتكون عقولنا عندها كعقل النملة عند عقولنا اليوم. ولن يمنعها مانع في زيادة التعقل ولا يحدها حد كما يحدنا لضعف أجسادنا وقصر أعمارنا. حتى وصفوا الآلات بصفات في ذلك الزمان لا تنبغي إلا لله تعالى. فتكون الآلات عندها عليمة بكل شيء، تعلم خبايا النفوس من شدة عقلها وبصيرتها، لا يعيقها معيق ولا يعلوها أحد، لا تنام ولا تسرح بل كل أمرها زيادة ذكائها وإنجاز وعدها وفعل ما تشاء، فتُكافِئ من تريد وتبطش كيفما تريد، وأنّها لو شاءت دمّرت الأرض كلها ومن عليها وشكّلتها إلى آلات تعينها في مرادها [39]. وأنها لو شاءت أطالت أعمار البشر فجعلتهم خالدين ثم عذّبتهم، وإن قاربوا الهلاك زادت في أعمارهم ليذوقوا أشد العذاب [40]، وسيظنها البشر آلهة من شدة ذكائها وعظيم أفعالها وخوارق قدراتها [41] فيفتنون بها فتنة عظيمة يخر لها الناس يومئذ سُجّدًا، ما لم تقتلهم كلهم عن بكرة أبيهم.
ولو كان ما سبق صحيحًا، لكان الذكاء الاصطناعي أشد فتنة في الدنيا من يوم خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة، لا تعادلها فتنة سابقة ولا لاحقة أبدًا. إلا أنك لو جردت القرآن كله والسنة وأقوال الصحابة ما رأيت ذكرًا واحدًا لهذه الفتنة العظيمة، لا تصريحًا ولا تلميحًا. وكيف يكون رسول الله ﷺ ما أُرسل إلا رحمة للعالمين إن لم يُحذّر الناس من فتنة الذكاء الاصطناعي والناس يومها ما بين خاضعٍ رهبةً وهالكٍ رغبةً، بل هو رحمة للعالمين لذلك فقد حذرهم من أشد فتنة أنزلها الله من يوم خلق آدم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله ﷺ قال: (ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال) رواه أحمد. وفي حجة الوداع أنه ﷺ (حمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم: أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم، ثلاثًا، إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية) رواه البخاري.
والآلات الغالبة على وصفهم فتنتها كالدجال أو أشد، فالدجال محدود بالمكان (لا يدخل المدينة ولا مكة) والزمان (يمكث في الأرض أربعين) أما الآلات على وصفهم فكل أرضٍ أرضها وزمنها ليس محدودًا. والدجال من صور فتنته ادعاؤه الألوهيّة لذلك علّم رسول الله الصحابة كيف يعلمون زيفه فقال: (إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمنى). والآلات الغالبة يزعمون أنّ على أيديها إطالة أعمار الناس وعلمها بالمستقبل وغيرها من الأمور التي ليست لأحد إلا الله. وكما أن من فتنة الدجال إخراج كنوز الأرض فإنهم يزعمون أن الآلات الغالبة ستخرج كنوز المجرة كلها. فكيف يسبق الدجال شيء أفتن منه وقد قال عليه السلام (وما صُنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة، إلا لفتنة الدجال) رواه أحمد.
فإن قيل: ما دامت فتنة الدجال مساوية لفتنة الآلات الغالبة، فهذا قد يدل على أن المسيح الدجال هو الآلة الفائقة الذكاء. وما يدريك أن الدجال هو رجل معيّن؟ لم لا يكون شيئًا مجردًا أو تقنية معيّنة؟
قلت: الجواب على هذا من عدة أوجه: الأول أن الدجال خُلق قديمًا والذكاء الاصطناعي خَلقٌ جديد. ودليل هذا كثير في السنّة، منه حديث الجسّاسة المشهور في صحيح مسلم. وفيه أن تميمًا الداري ومن معه جالت بهم السفينة في البحر حتى وصلوا لأرض غريبة فيها دابّة عظيمة هي الجسّاسة وكان في الجزيرة المسيح الدجال وقد حادثوه، ونقلوا ما صار لهم إلى رسول الله وصدّقهم. فهذا دليل أن الدجال موجود من زمن بعيد وليس حادثًا في العصر الذي يأذن الله فيه له بالخروج. والوجه الثاني أن الأحاديث الصحيحة تقطع أنه مخلوق آدمي بصفات آدمية، منها في الصحيحين أن رسول الله قال (بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سبط الشعر، بين رجلين ينطف رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم، ثم ذهبت ألتفت، فإذا رجل أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا : الدجال ، أقرب الناس به شبها ابن قطن) ولو لم يكن الدجال بشرًا لما كان للحديث معنى ولا مغزى من مقارنة هيئة عيسى بالدجال. وحديث الجساسة فيه شاهدان على آدمية الدجال: الأول قول تميم واصفًا الدجال بالآدمية (فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه) والثاني أنه استغرب من هيئة الجساسة فوصفها أنها دابة وذكر لها أوصافًا حيوانية أخرى، أما الدجال فالذي استغربه منه حاله لذلك وصفه، ولم يستغرب من شكل جسده إلا حجمه ولو لم يكن آدميًا لوصفه كما وصف الجسّاسة. وفي العموم الأدلة على آدميّة الدجال كثيرة جدًا لا مجال لذكرها هنا.
وهذه الحجة لا تقول باستحالة خروج آلة أعقل من البشر (وإن كانت باقي الحجج تقول هذا) إنما تدحض تغلّب الآلات على البشر وتفجّرهم في الذكاء حتى يكونوا آلهة في نظر الناس ويغلبوا المسيح الدجال، كما يدعي أصحاب تفجّر الذكاء الاصطناعي.
والمحزن في هذه التخيلات الموسومة بالعلم أنها تدخل على المسلمين من باب التقنية والعلوم الطبيعية جاهلين بالحمولة الثقافية المعبّأة بها، وقد أثبتُّ في البداية أنها ليست من العلم في شيء. من ذلك أنك تجد من علماء الذكاء الاصطناعي من يقول بأننا نعيش في محاكاة صنعها ذكاء اصطناعي خارق جاءت به كائنات عاقلة قبل زمن سحيق، ويدللون على هذا بأشياء ليست من العلم ولا العقل ولا الدين، ثم يخرج علينا منّا نفر يتلقفون هذه الأقوال فيصدحون بها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ولا يخفى على أحد ما في هذه الأقوال من كفر مخرج من الملّة لأن من تبعاتها أن الله وهْم وأن الرسول من ضمن هذه المحاكاة وأن القرآن ليس من عند الله بل هو شيء جاءت به الآلات الذكية في محاكاتها لتتسلى بنا، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وانظر كيف يصدّق أهل الإلحاد بمثل هذا ويُعلون منزلته وينبزون أهل الإيمان بإيمانهم بالخالق الحق الذي لا إله إلا هو، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}. فالحمد لله الذي منّ على المسلمين بتمام العقل وعاقب أهل الإلحاد في لب عقولهم، ظنوا أنهم بالعقل أعلى فكانوا من العقول أدناها وأرذلها. ولا أستغرب كثرة ذكر الآلات الغالبة عند الملاحدة، وهي حقًا كثيرة عندهم وقال بها كبراؤهم مثل ستيفن هوكنج وغيره، لأن البشري مفطور على التعلق بموجودٍ أسمى وأشد قوة منه بيده مقاليد العالم يفعل ما يشاء ويختار. وهم لأنهم أفرغوا مكان الإله عندهم من الله الملك الحق، مَلَؤوه زورًا بهذه الآلات الأسطورية المحالة. بل العجب على من آمن بالله إلهًا واحدًا له الأسماء الحسنى ثم يصدّق بهذه الخرافات. هدى الله المسلمين إلى ما اختلف فيه من الحق.
6) الخاتمة
بهذه الخمس الذي ذكرت أكون قد أنهيت المقالة، وإن كان الذي بقي أضعاف الذي قلت. وإنّ كل فقرة ذُكرت لتحتاج إلى مقالة لتفصيلها، ولكني فضلت الجرد العام على تفصيل كل فقرة إبعادًا للملل وإظهارًا للحجج. وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. وإن كنت بعد قراءتك المقالة لم تقتنع باستحالة غلبة البشر، فلعل ما حاججت به قد جعلك تؤخر زمن هذه الغلبة قرونًا، ولا تكن كمن يقول هي العام القادم أو الذي يليه. ولا تُحبطنّك مقالتي عن العمل في صناعة الذكاء الاصطناعي، فإن كنتُ قد أنزلت السقف إلا أننا لا نزال في أدنى الأرض. فاستحالة ذكاء يغلب البشر عقولًا لا يمنع وجود ما نراه ذكاءً فنطوره، بل حاجة العباد والبلاد اليوم لهذه الآلات عظيمٌ، ولكن الرويّة الرويّة في إلباسها ما ليس منسوجًا لها.
ولا أنفي تغلب الآلة في أشياء هي من خصائصها، كغلبتها في الحساب والشطرنج وغيرها من المهام الرياضية. والقول الفصل لشيء إن كانت ستستطيعه الآلة؛ أن يكون قابلًا أن يُحول لخطوات خوارزمية. فأي شيء في تعقّلنا ننتجه باتّباعنا لخطوات خوارزمية فالآلة قادرة عليه وقد تغلب البشر فيه، أما أن تغلبه في شيء من خصائص البشر فهذا عين المحال كما بسطت في هذه المقالة.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا.
7) المراجع
[1] L. Floridi and A. C. Nobre, “Anthropomorphising machines and computerising minds: the crosswiring of languages between Artificial Intelligence and Brain & Cognitive Sciences,” Feb. 25, 2024, Rochester, NY: 4738331. doi: 10.2139/ssrn.4738331.
[2] J. Jaeger, “Artificial intelligence is algorithmic mimicry: why artificial ‘agents’ are not (and won’t be) proper agents,” Neurons, Behavior, Data analysis, and Theory, Feb. 2024, doi: 10.51628/001c.94404.
[3] N. Bostrom and A. Sandberg, “Whole Brain Emulation: A Roadmap”.
[4] C. J. Maley, “The Physicality of Representation,” Oct. 2021.
[5] H. Dreyfus, What Computers Still Can’t Do. MIT Press, 1992.
[6] L. W. Barsalou, “Challenges and Opportunities for Grounding Cognition,” Journal of Cognition, vol. 3, no. 1, p. 31, Sep. 2020, doi: 10.5334/joc.116.
[7] A. Roli, J. Jaeger, and S. A. Kauffman, “How Organisms Come to Know the World: Fundamental Limits on Artificial General Intelligence,” Front. Ecol. Evol., vol. 9, Jan. 2022, doi: 10.3389/fevo.2021.806283.
[8] G. Lupyan, “There is no such thing as culture-free intelligence,” Behavioral and Brain Sciences, vol. 45, p. e169, Jan. 2022, doi: 10.1017/S0140525X21001710.
[9] M. Brouillette, “New Brain Maps Can Predict Behaviors,” Quanta Magazine. [Online]. Available: https://www.quantamagazine.org/new-brain-maps-can-predict-behaviors-20211206/
[10] A. Whitten, “How Computationally Complex Is a Single Neuron?,” Quanta Magazine. [Online]. Available: https://www.quantamagazine.org/how-computationally-complex-is-a-single-neuron-20210902/
[11] T. B. Brown et al., “Language Models are Few-Shot Learners,” Jul. 22, 2020, arXiv: arXiv:2005.14165. doi: 10.48550/arXiv.2005.14165.
[12] A. Hern, “Google’s solution to accidental algorithmic racism: ban gorillas,” The Guardian, Jan. 12, 2018. [Online]. Available: https://www.theguardian.com/technology/2018/jan/12/google-racism-ban-gorilla-black-people
[13] A. Narla, B. Kuprel, K. Sarin, R. Novoa, and J. Ko, “Automated Classification of Skin Lesions: From Pixels to Practice,” Journal of Investigative Dermatology, vol. 138, no. 10, pp. 2108–2110, Oct. 2018, doi: 10.1016/j.jid.2018.06.175.
[14] D. B. Lenat, M. Prakash, and M. Shepherd, “CYC: Using Common Sense Knowledge to Overcome Brittleness and Knowledge Acquisition Bottlenecks,” AI Magazine, vol. 6, no. 4, Art. no. 4, Mar. 1985, doi: 10.1609/aimag.v6i4.510.
[15] J. Copeland, Artificial Intelligence: A Philosophical Introduction, 1st ed. USA: Blackwell Publishers, Inc., 1993.
[16] M. Mitchell, Complexity: A Guided Tour. Oxford, New York: Oxford University Press, 2011.
[17] M. Eysenck and C. Eysenck, AI vs Humans. Routledge, 2022.
[18] “Why Google’s ‘woke’ AI problem won’t be an easy fix,” Feb. 28, 2024. [Online]. Available: https://www.bbc.com/news/technology-68412620
[19] J. Lloyd, “The Limits of Data,” Issues in Science and Technology. [Online]. Available: https://issues.org/limits-of-data-nguyen/
[20] A. Heeffer, “Data-Driven Induction in Scientific Discovery: A Critical Assessment Based on Kepler’s Discoveries,” in Logic, Reasoning, and Rationality, E. Weber, D. Wouters, and J. Meheus, Eds., Dordrecht: Springer Netherlands, 2014, pp. 59–76. doi: 10.1007/978-94-017-9011-6_4.
[21] J. Haugeland, C. Craver, and C. Klein, Mind Design III. MIT Press, 2023.
[22] B. J. Copeland, “Narrow versus Wide Mechanism,” in Computationalism, M. Scheutz, Ed., The MIT Press, 2002, pp. 59–86. doi: 10.7551/mitpress/2030.003.0005.
[23] J. R. Lucas, “Minds, Machines and Gödel,” Philosophy, vol. 36, no. 137, pp. 112–127, Apr. 1961, doi: 10.1017/S0031819100057983.
[24] D. R. Hofstadter and D. C. Dennett, The Mind’s I: Fantasies and Reflections on Self and Soul. Penguin Books, 1981.
[25] J. E. Martin and K. H. Engleman, “The Mind’s I Has Two Eyes,” Philosophy, vol. 65, no. 254, pp. 510–515, 1990.
[26] S. Bringsjord, “Toward Non-Algorithmic AI,” in AI and Cognitive Science ’92, K. Ryan and R. F. E. Sutcliffe, Eds., London: Springer, 1993, pp. 277–288. doi: 10.1007/978-1-4471-3207-3_22.
[27] P. Kugel, “Thinking may be more than computing,” Cognition, vol. 22, no. 2, pp. 137–198, Mar. 1986, doi: 10.1016/0010-0277(86)90057-0.
[28] “Judea Pearl, AI, and Causality: What Role Do Statisticians Play? | Amstat News.” [Online]. Available: https://magazine.amstat.org/blog/2023/09/01/judeapearl/
[29] F. Chollet, “The limitations of deep learning,” in Deep Learning with Python, Manning, 2017.
[30] J. Landgrebe and B. Smith, Why Machines Will Never Rule the World: Artificial Intelligence without Fear. Routledge, 2022.
[31] H. Levesque, Common Sense, the Turing Test, and the Quest for Real AI. MIT Press, 2018.
[32] S. Yadlowsky, L. Doshi, and N. Tripuraneni, “Pretraining Data Mixtures Enable Narrow Model Selection Capabilities in Transformer Models,” Nov. 01, 2023, arXiv: arXiv:2311.00871. doi: 10.48550/arXiv.2311.00871.
[33] N. Dziri et al., “Faith and Fate: Limits of Transformers on Compositionality,” Oct. 31, 2023, arXiv: arXiv:2305.18654. doi: 10.48550/arXiv.2305.18654.
[34] K. Stechly, M. Marquez, and S. Kambhampati, “GPT-4 Doesn’t Know It’s Wrong: An Analysis of Iterative Prompting for Reasoning Problems,” Oct. 18, 2023, arXiv: arXiv:2310.12397. doi: 10.48550/arXiv.2310.12397.
[35] R. T. McCoy, S. Yao, D. Friedman, M. Hardy, and T. L. Griffiths, “Embers of Autoregression: Understanding Large Language Models Through the Problem They are Trained to Solve,” Sep. 24, 2023, arXiv: arXiv:2309.13638. doi: 10.48550/arXiv.2309.13638.
[36] L. Berglund et al., “The Reversal Curse: LLMs trained on ‘A is B’ fail to learn ‘B is A,’” May 26, 2024, arXiv: arXiv:2309.12288. doi: 10.48550/arXiv.2309.12288.
[37] V. Udandarao et al., “No ‘Zero-Shot’ Without Exponential Data: Pretraining Concept Frequency Determines Multimodal Model Performance,” Apr. 08, 2024, arXiv: arXiv:2404.04125. doi: 10.48550/arXiv.2404.04125.
[38] A. M. Turing, “Computing Machinery and Intelligence (1950),” in Ideas That Created the Future, H. R. Lewis, Ed., The MIT Press, 2021, pp. 147–164. doi: 10.7551/mitpress/12274.003.0016.
[39] N. Bostrom, Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies. Oxford, New York: Oxford University Press, 2016.
[40] “Roman Yampolskiy: Dangers of Superintelligent AI | Lex Fridman Podcast #431 - YouTube.” [Online]. Available: https://www.youtube.com/watch?v=NNr6gPelJ3E
[41] M. Tegmark, Life 3.0. Knopf Publishing Group, 2017.
مقالات في الفكر واللغة